للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي نظري فإن ابن القيم قد تكلم في كثير من علل الأحكام سواء في مجال العبادات أو المعاملات، مما لم يتطرق إليه ابن تيمية، حتى إنه ليعلل الأعداد والمقدرات التي جاءت بها الشريعة. فيذكر أن عدة المتوفى عنها زوجها كانت أربعة أشهر وعشرًا لأنها أولى المدد التي يعلم فيها بوجود الولد وعدمه، فكانت على وفق الحكمة والمصلحة (١). وأن المقادير التي جاءت بها الشريعة في الزكاة تحقق العدل والمصلحة لكل من الفقراء وأرباب الأموال (٢). وإن إحداد المرأة على غير الزوج يناسبه ثلاثة أيام ترتاح فيها النفس وتقضي بها وطرًا من الحزن، بخلاف الإحداد على الزوج، فإنه تابع للعدة، وهو من مقتضياتها ومكملاتها (٣). وكما قال الجويني، عند عرضه لمذاهب العلماء في عدد من تنعقد بهم بيعة الإمام وذكره بعض العلل لذلك قال: "ولو تتبع المتتبع الأعداد المعتبرة في مواقع الشرع، لم يعدم وجوهًا بعيدة عن التحصيل في التشبيه" (٤).

فلا يشترط أن تكون كل تلك التعليلات قد أصابت كبد الحقيقة، وأظهرت سر الشريعة، ولكنها اجتهادات قد تخطئ وقد تصيب".

قال أبو عبيدة: هذه المباحث وغيرها؛ تدلل على أصالة ابن القيم في علمَي (الفقه) و (أصوله)، وأن له يدًا طولى فيه، وأن عنده فيه عقلية تحليلية إحصائية استقرائية تجمع المسائل تحت منضَبَطٍ واحد، والتمس من خلال ذلك "أسرار التشريع، وعلل الأحكام، ليظهر جمال شرع اللَّه تعالى، وكمال حكمته، ولطف علمه وخبرته، فعلل تلك الأحكام بما يناسبها من سر التشريع، وعمق المأخذ، وعلّة الحكم، ليجعل من تلك الأسرار التشريعية، والحِكَم الإلهية، قواعد وضوابط يبني عليها الكثير من جزئيات الأحكام.

وهذه العلل المرفقة، والأسرار المنقحة في كتابنا الجليل -الذي لم يصنف في بابه على منواله- تدلل على غوص صاحبه في أغوار التشريع" (٥) وفيها "قلائد وفوائد وموائد وفرائد، وكتب لها السلاسة مزية، ووضوح من غير تعقيد ولا


(١) "إعلام الموقعين" (٢/ ٣٩٥).
(٢) "إعلام الموقعين" (٢/ ٣٣٣)، وانظر: "حجة اللَّه البالغة" (٢/ ٤٣ - ٤٤).
(٣) "إعلام الموقعين" (٢/ ٤١٤).
(٤) "الغياثي" (ص ٦٩).
(٥) من مقدمة الشيخ عبد اللَّه البسام لكتاب "أسرار الشريعة من إعلام الموقعين" لمساعد بن عبد اللَّه السلمان (ص ٥) بتصرف يسير.

<<  <  ج: ص:  >  >>