للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"فكل مَنْ له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائله ثم أنصف لم يَشُكَّ أن تقرير هذا الإجماع منهم على تحريم الحيل وإبطالها ومنافاتها للدين أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك مما يُدَّعى فيه إجماعُهم، كدعوى إجماعهم على عدم وجوب غسل الجمعة، وعلى المنع من بيع أمهات الأولاد، وعلى الإلزام بالطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وأمثال ذلك.

فإذا وازنت بين هذا الإجماع وتلك الإجماعات ظهر لك التفاوت، وانضم إلى هذا أن التابعين موافقون لهم على ذلك، فإن الفقهاء السبعة وغيرهم من فقهاء المدينة الذين أخذوا عن زيد بن ثابت وغيره متفقون على إبطال الحيل، وكذلك أصحاب عبد اللَّه بن مسعود من أهل الكوفة، وكذلك أصحاب فقهاء البصرة كأيوب وأبي الشَّعْثاء والحسن وابن سيرين، وكذلك أصحاب ابن عباس.

وهذا في غاية القوة من الاستدلال، فإنه انضم إلى كثرة فتاويهم بالتحريم في أفراد هذا الأصل وانتشارها أن عصرهم انصرم، ورقعة الإسلام متسعة، وقد دخل الناس في دين اللَّه أفواجًا، وقد اتسعت الدنيا على المسلمين أعظم اتساع، وكثُر من كان يتعدى الحدود، وكان المقتضى لوجود هذه الحيل موجودًا، فلم يُحفظ عن رجل واحد منهم أنه أفتى بحيلة واحدة منها أو أمر بها أو دلَّ عليها، بل المحفوظ عنهم النهي والزجر عنها؛ فلو كانت هذه الحيل مما يسوغ فيها الاجتهاد لأفتى بجوازها رجلٌ منهم، ولكانت مسألة نزاع كغيرها. بل أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم متفقة على تحريمها والمنع منها، ومضى على أثرهم أئمة الحديث والسنة في الإنكار".

وأخذ في سرد مفردات الحيل في أبواب متعددة من أبواب الفقه، وقرر أنه لا يجوز أن ينسب القول بجواز الحيل إلى إمام، لأن ذلك قدح في إمامته، وأن الأئمة برءاء مما نسب إليهم من ذلك، ثم أخذ في سرد الأدلة العقلية على ذم الحيل وتحريمها، وفصَّل في ذكر حِكم الشرع (١) في أحكام متعددة، وبيّن أن أكثر الحيل تناقض أصول الأئمة، وأنها تقتضي رفع التحريم من عشرة وجوه (٢).

وبعد هذا كله، رجع إلى حجج الذين جوَّزوا الحيل، وذكر أدلتهم من القرآن والسنة وعمل السلف، وادعاءهم أن في المذاهب فروعًا ينبني عليها تجويز


(١) انظر: ما سيأتي عن ذلك (ص ١٨٥) من هذه المقدمة.
(٢) انظرها في (٤/ ١١٢ - ١١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>