للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم تكلم على هذه المسائل بإفاضة وتفصيل، وقال تحت عنوان (الخلاصة):

"نحن نستبين مما تقدم أن ابن قيم الجوزية لم يكن من الفقهاء العاديين. بل كان من النوابغ، الذين نظروا إلى الشريعة الإسلامية على حقيقتها، والذين تحروا عن مقاصدها وغاياتها، وتمسكوا بها غير مبالين بما قاله غيرهم.

وعلى هذا حارب ابن القيم التقليد الأعمى، والجمود والخرافات الشكلية، والتفصيلات الآرائية، ودقق في الاجتهاد. فاعتبر المقاصد أساسًا للحكم في تصرفات الناس ومعاملاتهم، وأفتى بتحريم التحيل على الشرع، وتوسع في أصول المحاكمات وطرق البينات.

فتوصل بذلك كله إلى نظريات عصرية، كنظرية المنفعة في أعمال الفضولي، ومبدأ حرية التعاقد، ومبدأ تقدير قيمة الشهادات، وعدم تجزئة الإقرار، وفسخ عقود المديون المضرة، ومبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان والأمكنة والأحوال، وما شابه من النظريات والمبادئ، التي لا نراها اليوم إلا في أحدث الشرائع. وذلك كله في زمن سابق لها بعدة قرون.

وما هذا كله إلا دليل من الأدلة الكثيرة، على أن الشريعة الإسلامية تحوي من الأسس القويمة، ما جعلها تماشي المدنية في الماضي، وما يجعلها اليوم قابلة لأن تساير كل تطور في الحاضر والمستقبل. وإذا كان الأمر على عكس ذلك، في وقت من الأوقات، فلم يكن مرده إلا إلى جمود بعض المتأخرين، وإلى تقصيرهم في تفهم معاني الشريعة الحقيقية، كما يجب أن تفهم، وكما فهمها أمثال شمس الدين أبي عبد اللَّه ابن قيم الجوزية".

قال أبو عبيدة: نستطيع أن نقرر بكل أريحية من خلال العرض السابق: أن لابن القيم في كتابه هذا اختيارات أصولية وفقهية كثيرة، تدل على اطلاع غزير، وأفق واسع، وإدراك لمصالح الناس، ولبّ الفقه والشريعة، وهو بهذا مصلح ومجدد (١)، ورحم اللَّه صديق حسن خان لما قال عنه وعن شيخه ابن تيمية:

"وقد جدد اللَّه بهما الدين الحنيف، والأعمال القيمة العظيمة التي قام بها


(١) ترجم الأستاذ عبد المتعال الصَّعيدي في كتابه "المجددون في الإسلام" (ص ٢٢٩ - ٢٣٢) للإمام ابن القيم، وأخذ عليه أنه حارب علم الفلسفة: ولم يظهر -كعادته في كتابه- أوجه التجديد الحقيقية عند ابن القيم، وغمز فيه بما حقّه المدح، وليس هذا موطن البسط، وتكفي هذه الإشارة للمعتنين بعلم السلف ومنهجهم، واللَّه الهادي والواقي.

<<  <  ج: ص:  >  >>