ليلةً وقد مضى مِن اللَّيلِ نصفُهُ، فدَقَّ بابَ الحرمِ ودخلَ، وقد لحقَه اختلالٌ، فطلعَ المئذنةَ الجديدةَ، تكلَّمَ على عادته، فأنكرَ النَّاسُ قيامَهُ، ثمَّ سكتَ ولم ينزلْ، فطلعوا إليه فوجدُوه ميِّتًا، وذلك في سنة عشرٍ وسبعِ مئةٍ رحمه الله، وفيها تُوُفِّيَ عزيزُ الدَّولةِ أيضًا، فانحلَّتِ اليمينُ، وطلعَ المئذنةَ في أيامِ الحريريِّ، وكانَ مِن أكبرِ أحبابِهِ، فانظرْ إلى هذه النَّفْسِ الأبيَّةِ والِهمَّةِ العَلَيَّةِ.
وقالَ ابنُ فرحونٍ أيضًا في مقدِّمةِ "تاريخه"(١): حكى لي الشَّيخُ الإمامُ العلامةُ أقضى القضاة جمالُ الدِّينِ هذا: أنَّه كانَ في المدينةِ رجلٌ صالحٌ، عظيمُ القدرِ، مِن أربابِ القلوبِ يقالُ له: الزَّجَّاجُ، وهو مِن جملةِ شيوخِهِ، وشيوخِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المؤذِّنِ، وكانا بعدَ موتِ والديهما مؤذِّنَينِ مُتَواخِيينِ في رئاسةِ الأذانِ، يتعاقبونَ في الوقتِ، قالَ الجمالُ: فكنَّا نجيءُ لبابِ المسجد في السَّحَرِ للدُّخولِ لأجلِ الأذان، فنجدُ الشَّيخَ الزَّجَّاجَ قاعدًا على الباب يذكُرُ ويقرَأُ، قال: فأدُقُّ البابَ، فيقولُ لي صاحبُ النَّوبةِ: مَنْ هذا؟ فأقول له: محمَّدٌ، فيفتحُ لي، ثمَّ يجيءُ صاحبي فيفعلُ معه كذلك، ثمَّ كذلكَ لثلاثتِنا، وكانَ اسمُه عبدَ الرَّحمنِ خالَ محمَّدِ بنِ صالحٍ نائبِ الإمامةِ والخطابةِ، قالَ: فخلا الشَّيخُ بي، وقالَ لي: يا محمَّدُ، أنتَ تتصوَّرُ ما أنا وأنتَ فيه في كلِّ ليلةٍ، فقلتُ له: لا علمَ لي، [قال:] صدقتَ لو علمتَ لظهرَ عليك أثرُهُ، ثمَّ قالَ: أحضرْ عقلَكَ، وانظرْ إليَّ كيفَ أبقى بعدَك محجوبًا عن الدُّخولِ، وأنت مأذونٌ لك فيه دوني، فتدخلُ وتجتمع بمحبوبكَ، وذكرَ حكايةً.