وعُرفَ بالزُّهدِ والعبادة، ومزيدِ التَّقشُّف والإيثار، والانعزال والإقبالِ على وظائفِ الخير، وكونِه مع فقرِه جدًا بحيثُ إنَّه لم يكن في بيتِه شيء يفرِشُه لا حصيرٌ ولا غيرُه، بل ينامُ على بابٍ هناك، كان يتصدَّقُ من خُبزه بالمؤيَّدية، إلى أنْ كانَ في موسمِ سنةِ سبعٍ وخمسين، فحجَّ وزار النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة الشريفة، وانقطع عنده بها، فاتَّصل، وعظُمَ انتفاعُ أهلِها به في العِلم والإيثار، وحفظوا من كراماتِه وبديعِ إشاراتِه ما يفوقُ الوصف، وكان بينهم كلمةَ إجماع، وبالغَ هو في إكرامِهم، وفي وصفِهم بخطِّه فيما يكتبُه لهم، كأنَّه يترجَّى اتِّصافَهم بذلك، وصارَ في غالبِ السنين يحجُّ منها، بل جاورَ بمكَّةَ في سنةِ إحدى وسبعين، وكنتُ (١) هناك، فكثر اجتماعي به، واستثناسي بمحادثته، وأقبلَ ولله الحمدُ عَلَيَّ بِكُلِّيّتِه، وسمعتُ من فوائده ومواعظه، وكنتُ أبتهج برؤييه وسماعِ دعواتِه، وكان على قدَمٍ عظيمٍ من الاشتغالِ بوظائفِ العبادة، صلاةً وطوافًا، ومشاهدةً وتلاوةً، وإيثارًا وتقنُّعًا، وتحرُّزًا في لفظه، بل وغالبِ أحوالِه مُنعزلًا عن أهلِها البتة، وربَّما جلسَ في بعضِ مجالسِ الحديثِ بأطرافِ الحلقة، وحاولَه جماعةٌ في الإقراءِ فما وافقَ، بل امتنعَ من التَّحديثِ أدباً مع أبي الفرج المراغي فيما قيل، والظَّاهرُ أنَّه للأدبِ مع النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ولا زالَ في ترقٍّ من الخير، وأخبارُه تَرِدُ علينا بما يدلُّ على ولايتِه حتى مات، بعد أنْ تركَ شهودَ الجماعةِ والجمعة.
ممَّا أخبرني الثِّقةُ أنَّه سمعَه وهو بمفرده في خلوتِه يقولُ: يا عدوَّ الله، تتقدَّمُ للمحرابِ، أو نحوِ هذا، ممَّا ظهرَ أنَّه سببُ تخلُّفِه عن شهودِ ذلك. بل حُكي لَي: أنَّه لمَّا