للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقالَ ابنُ فرحون (١): كانَ مِمَّنْ أدركنَاهُ مِنَ الأكابرِ الصُلحاءِ المُتَقدمينَ في عمارةِ الحَرَمِ بالنِّجَارَةِ، قدمَ المدينةَ (٢) بَعدَ حريقِ الحرمِ (٣) بالمنبرِ الشَّريفِ الموجودِ اليومَ فوضعَهُ، فأحسنَ في وضعِهِ وفي نجارتِهِ، وكتبَ اسمهُ عليهِ، وذلكَ في سنةِ ستٍ وستينَ وستمائة (٤)، ثُمَّ انقطعَ بالمدينةِ إلى أن تُوفي بِهَا.

وكانَ مُختَلِطًا بالصالحين، مُتقنعًا بمكسبِ يدِهِ، مُتعفِفًا عن الأطماعِ المدنسةِ للأعراضِ، مُكِبًّا على الخيرِ. كُنتُ أجلسُ إليه، فحكى عن أهلِ زمانِهِ غرائبَ وعجائبَ، وكنتُ لا أزالُ أرى حولَهُ عددًا مِنَ الحيوانِ، ما بين هِرَرٍ ودوابٍ، قَدْ ألفُوه بالإحسانِ إليهم، وكانَ يقولُ لي: هَذَا الهرُّ جَدُّ هذَا الهِرِّ، وهَذَا خالُ هَذَا، وهَذَا ابنُ عَمِّ هذَا، قَدْ رَبَّى منهم كثيرًا، وعرفَ أنْسَابَهُم، بلْ كان يُحسنُ إلى الدَّوابِ المُضَيَّعةِ في الأسواقِ، ويرى ذلكَ كلَّهُ من جملةِ الصدقاتِ، وربَّمَا تمثَّلَ في ذلكَ بقولِهِ عليهِ السَّلامُ: "في كُلِّ كَبِدٍ حَرَّى (٥) أَجْرٌ" (٦). أخبرني عبدُ الله بنُ عُمرَ بنِ الحراز سبطه قالَ: قالَ لي


(١) "نصيحة المشاور" ص: ١٦٨.
(٢) كان قدومه بالمنبر سنة ٦٦٤ هـ بعد حريق المسجد بعشر سنين. "المغانم المطابة" ٣/ ١١٦٥.
(٣) احتراق المسجد النبوي كان في سنة ٦٥٤ هـ.
(٤) في "المغانم المطابة" ٣/ ١١٦٥: (بعد حريق المسجد بعشر سنين)، أي سنة ٦٦٤ هـ، لأن الحريق كان سنة ٦٥٤ هـ.
(٥) الحَرَّى فَعْلَى من الحَرِّ، وهي تأْنيث حَرَّان، وهما للمبالغة، يريد أَنها لشدة حَرِّها قد عَطِشَتْ ويَبِسَتْ من العَطَشِ. قال ابن الأَثير: (والمعنى أَن في سَقْي كل ذي كبد حَرَّى أَجرًا). لسان العرب مادة (حرر).
(٦) أخرجه ابن ماجه في سننه كتاب الأدب، باب فضل صدقة الماء برقم (٣٦٨٦)، وأحمد في المسند (٤/ ١٧٥) من حديث سراقة بن جعشم. وأخرجه البخاري في صحيحه كتاب باب رقم (٢٢٣٤)، ومسلم في صحيحه كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها رقم (٥٥٩٦) من حديث أبي هريرة بلفظ: "في كل كبد رطبة أجر".