للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الشَّهيرُ أبو عبدِ الله محمَّدٌ، ولم يكنْ حينئذٍ بلغَ الحُلُمَ، وذلك في سنةِ خمسٍ أو ثمان وعشرين وسبعِ مئَةٍ، فاشتغلَ الولدُ بالعلمِ، ثمَّ رجعا إلى بلدِهما تلمسانَ، فأقاما سنين، ثمَّ عادا إلى المدينة، فأقامَ الشَّيخُ ورجعَ ولدُه، واستقرَّ الشَّيخُ في الحُجرةِ المذكورة، ثمَّ انتقلَ إلى بيتي، ثمَّ اشترى نصفَ دُويرةُ، وسكنَها، حتَّى سافرَ إلى مكَّةَ، وماتَ بها في سنةِ أربعين، أو إحدى وأربعين وسبعِ مئةٍ، وكان ذا كراماتٍ وأحوالٍ جليلةٍ؛ تسلَّطَ عليه شخصٌ من أهلِ بلادِه يقالُ له: عثمانُ بنُ المعذورِ، كثيرُ الشَّرِّ، وصارَ يطلبُ منه كلَّ حينٍ النَّفقةَ، ويُشْعِثُ (١) عليه وقتَه بكثرةِ التَّردُّدِ إليه، فحمَلَه الشَّيخُ، فاحتالَ بأنْ عملَ على بابِه غَلَقًا، إذا قفلَه لا يُفطَنُ لكَونه داخلَه، ولا يخرجُ إلا إلى الصَّلاةِ؛ فصارَ يتهدَّدُه في الطُّرقاتِ بالقتلِ وبالسِّحرِ، ثمَّ أغرى الشُّرفَاء به، وقال لهم: إنَّ عندَه من الذَّهبِ عشرةَ آلاف، وبالغَ في أذيِّتِه، والشَّيخُ يُحيلُه على اللهِ، ويصبرُ، إلى أنْ مرِضَ وانقطعَ في بيتِه، وكأنَّه غفلَ عن البابِ، فدخلَ عليه وهو مريضٌ، فروَّعَه، ولو لم أُعالجْه لمجاورتي إيِّاهِ بالدُّخولِ عليه لما كنتُ أدري ما يفعلُ به، فبادرَ وذهبَ إلى الأميرِ، وقال: إنْ ماتَ ابنُ مرزوقٍ استغنيتَ الدَّهرَ، وكلُّ مالِه عندَ ابنِ فرحونٍ، فبلَّغتُه ذلك، وأخبرتُه، فقال لي: ووصلَ إلى هذا الحدِّ! أنا إنْ شاءَ اللهُ أُريكَ فيه، فواللهِ لم تمرَّ عليه إلا أقلُّ مِن جُمعةٍ حتى حُملَ إلى المقبرةِ بعدَ عذابٍ شديدٍ نالَه في مرضِه، وذلك في سنةِ تسعٍ وثلاثين وسبعِ مئةٍ. وكان الشَّيخُ لا يأكل الرُّطبَ ولا الفاكهةَ، ولا البِطيخَ، ولا العِنبَ، ولا اللَّحمَ والسَّمَن، حتى نَحَلَ وَرَقَّ، وعزمتُ عليه بظاهرِ الشَّرعِ فلم يتحوَّلْ، بل كانَ صائمَ الدَّهرِ، قائمَ اللَّيلِ، لا يفتُرُ


(١) أي: يشتت. انظر "القاموس": شعث.