للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وكانَ كثيرَ العبادةِ والورع، وافرَ الصَّلاحِ، والعُزلةِ، والإيثارِ للفقراء، والانقباضِ عن بني الدُّنيا مع إنكارِه عليهم، ولذا نالته ألسنتهم، ونسبوه إلى حبِّ الظُّهورِ، وتطرَّقوا للكلامِ فيه بسببِ مقالةٍ قالها، وهي قولُه من قصيدةٍ (١):

ويا ليلةً فيها السَّعادةُ والمنُى … لقد صغُرَتْ في جنيها ليلةُ القَدْرِ

حتى إنَّ الضياءَ الحمويَّ (٢) كفَّرَه به، وأبى ذلكَ غيرُ واحدٍ مِن علماءِ عصرِه، وأبدَوا له وجهاً، وكذا أُخذَ عليه في كلماتٍ وقعت منه تقتضي تعظيمَه لأمرِه.

ورحلَ إلى الشَّامِ في سنةِ أربعٍ وثلاثينَ، وزارَ القدسَ، والخليلَ، ودخلَ مصرَ مخُتفياً، وزارَ الشافعيَّ، وغيرَه، والصَّعيدَ، كلُّ هذا على قدَمِ التَّجريدِ، ولم تفتْه حجةٌ في تلكَ السِّنين، ثمَّ عادَ لمكَّةَ. وأنشأ لسانُ الحال (٣):

فألقتْ عصَاها واستقرَّ بها النَّوى … كما قرَّ عَيناً بالإياب المسافرُ

وتصدَّى للتَّصنيف، والإقراءِ، والإسماعِ، وكانت أوقاتُه مصروفةً في وجوهِ البر، وأكثرُها العلمُ، وممَّن أخذَ عنه الزَّينُ العراقيُّ، والجمالُ ابنُ ظهيرةَ، وأثنى


(١) البيت في "العقد الثمين" ٥/ ١٠٦.
(٢) إسماعيلُ بنُ عمرَ، ضياءُ الدِّين الدِّمشقيُّ، المعروف بابن الحموي، عالمٌ بالحديث، كثير العبادة، مولده سنة ٦٣٥ هـ، ووفاته سنة ٧٢٧ هـ. "المعجم المختص بالمحدِّثين"، ص: ١١٥، و"البداية والنهاية" ١٤/ ١٣٥، و"الدرر الكامنة" ١/ ٣٧٤.
(٣) البيت لعبد ربَّه السلمي، وكان سيَرَّ امرأته من اليمامة إلى الكوفة، وقيل: هو لمعقِّر بن حمارٍ البارقي. "ألسان العرب": عصا. يقال: ألقى المسافر عصاه: إذا بلغ موضعه وأقام، ويُضرب هذا مثلاً لكلِّ مَن وافقه شيءٌ فأقام عليه.