للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

والصَّبرِ، فمكثَ بهِ سِنينَ لا يُعلمُ بحالِهِ، ولمْ يتعرَّضْ لزوجةٍ ولا ولدٍ، بلْ كانَ هو وأصحابُهُ يطوونَ الايَّامَ على غيرِ شيءٍ من الطَّعامِ. قالهُ ابنُ فرحونٍ (١).

قال: وأخبرنِي بعضُ خُدَّامِهِ آنهُ كانَ لهُ أصحابٌ مغاربةٌ، مثلُ يوسفَ وحسنٍ الخولانيينِ، ومحُمَّدٍ المكناسيِّ، إذا جاؤوا مِنْ عملهِمْ في الحدائِقِ حَملُوا معهُم شيئًا مِن رُمامِ البُقولِ الذي لا يصلحُ إلَّا للدَّوابِّ كالسِّلْقِ وبقايا اللِّفتِ، وما أشبههُما، فيأخذُهُ خادمُهمْ، فيسلقُهُ، ويضعُهُ في قَصعةٍ إلى أنْ يفرغُوا مِنْ صلاةِ العشاءِ، فيقدِّمُهُ لهم وهمْ صائمون، فيأخذُ كلٌّ منهم كِفايتَهُ، وما فضلَ منهم أخذَهُ الخادمُ، ورماهُ خارجَ بابِ المدينةِ؛ لتأكلَهُ البهائِمُ، واستمرَّ على ذلك سِنينَ لا يعملونَ غيرَه إلّا في النَّادرِ، حتَّى فطِنَ بهم بعضُ النَّاس، فكان يأتِيهِم بشيءٍ من الأعْشارِ، كعُشرِ الشَّعيرِ والتَّمرِ، منهم سنجرُ تركيُّ الأميرِ جمَّارٍ، وأبو شميلةَ الدَّارانجيُّ، فترفَّعَ حالُهُم، وكثُرَ أتباعُهم، ومالَ النَّاسُ إليهم لما رأَوْا من خيرِهِمْ واعتزالهِم، ثُمَّ قصدهُم الخدَّامُ، وصحبُوهمْ.

واشتُهرَ في البِلادِ ذكرُ صاحبِ التَّرجمةِ، فكانَ يُقصد مِنَ البلادِ البعيدةِ، كاليمنِ وغيرِها، ويبسُطُ يدَهُ بالإنفاقِ، حتَّى كانَ لا يدَّخِرُ شيئًا، ولا يرُدُّ فَقيرًا، ولا يَبِيتُ على معلومٍ. كانَ إذا قدِمَ عليهِ أحدٌ مِنْ مكَّةَ أضافَهُ ووانسَهُ، ثُمَّ يقولُ لهُ: ارفعْ طرفَ الحصيرِ، فيرفَعُهُ، فما وجدَ تحتَه فهو لهُ، كثيرًا كان أو قليلًا.

وإذا أطعمَ الفقراءَ لم يَدعْ في بيتِهِ قمحًا ولا سَمْنا ولا عَسلًا، بلْ يعملُ لهمْ


(١) "نصيحة المشاور"، ص: ٦٥، ٦٦.