للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

انضوَى إلى المدينةِ بنيَّةِ الجِوارِ، وأَلقَى بِفِنائِهِ عَصَى التِّسيارِ، وصادفَ ورودُهُ زمانَ شِظاف، وكَلَبَا حَكَى مِنهُ المزارعُ طرافَ عصاف (١)، فأقامَ بالمدرسةِ الشِّهابيةِ مدةً، ولم يكنْ لهُ غيرُ التَّوكُّلِ عُمدةً وعدةً، ثُمَّ انتقلَ إلى رِباطِ دُكالةَ، النَّفسُ غيرُ حريصةٍ ولا أكَّالةٍ، فمكثَ بها سنِينَ لا يعلمُ بِهَا أحدٌ حالَهُ، وفي خدمتِهِ جماعةٌ من المجاهدينَ، صارعُونَ الطَّوى، ويقارعونَ البَلَا، كأزهَدِ الزَّاهدينَ، يطوُونَ مراحلَ الأيَّامِ، بقليلٍ مِنَ الطَّعامِ.

كان لهمْ فُقراءُ معارفُ عَرفُوا بالآخِرةِ حالَهم، وكانوا إِذَا فرغُوا فِي مَخْن (٢) الحدائقِ أشغالهِم الغيرِ محَمِيَةِ، حملوا لهُم مِنْ سقاطاتِ اللِّفتِ السِّلْقِ المرميَّةِ، ورفات (٣) الجزرِ والبقولِ اللَّحميَّةِ، وأتوابها إليهِمْ، كأنما أنعمُوا بجزِيل منَ النِّعمِ عليهم، فيأخذُهُ خادمُهُم ويسلقُهُ بالماءِ، فإذَا رجعُوا مِنْ صلاةِ العِشاءِ، تَناولُوا مِنهُ لُقَمًا، وما فضَلَ مِنْ ذلكَ أخذهُ الخادمُ، ورمَى بهِ خارجَ البلدِ فتأكلَهُ البهائِمُ.

استمرُّوا على ذلكَ أعوامًا، لا يعرفُونَ غيرَ ذلكَ طعامًا ولا إدامًا، فَفَطِنَ لهمْ بعضُ النَّاسِ، فكانَ يأتِيهِمْ بشيءٍ مِنْ عُشر التَّمرِ والشَّعيرِ، ويجتزِئُونَ (٤) بذلكَ بِأيسرَ من اليَسيرِ، إلى أنْ انتشرَ صِيتُهم، واشتَهَرتْ أخبارُهم، وكَثُرَ أتباعُهُم


(١) في "المغانم" قصاف، والعصف في اللغة: هو الثمر الذي أُكِلَ حَبُّه وبَقِيَ تِبْنُهُ، أَو كوَرَقٍ أُخِذَ ما كان فيه، وبقي هُوَ لا حَبَّ فيه، "القاموس": عصف. وفيه كنايةٌ عن الشِّدَّة التي كانوا عليها.
(٢) المَخْنُ: النزعُ من البئر. "القاموس": مخن.
(٣) كذا، وتحتمل: رقاب؟
(٤) في المخطوطة: ويتجزون.