فنونٍ من العلمِ تشهدُ بفضلِه، بعث بها مِن المدينةِ يتعرَّفُ أجوبةَ علماءِ الدِّيارِ المصريةِ عنها، فتصدَّى للجوابِ عنها الجلالُ ابنُ البُلقينيِّ، وردَّ عليه كثيرًا ممَّا قالَه، ووصلَ إليه ذلك، فردَّ عليه ما ذكرَه، وكذا له أيضًا فتاوى كثيرةٌ مفرَّقةٌ، لم يتشدَّدْ في كثيرٍ منها لمخالفتِه فيه المنقولَ ومقتضى القواعد، وعليه في بعضها تناقضٌ ظاهرٌ؛ لاختلافِ جوابِه في الواقعةِ الواحدةِ، ممَّا يُقالُ: إنَّه كانَ يقصدُ به مراعاةَ خواطرِ السَّائلينَ، بحيثُ عِيبَ به.
بل عِيبَ أيضًا بكثرةِ إطالةِ لسانِه، بالوقيعةِ في أعيانِ العلماءِ مِن المتقدِّمينَ، بل كانَ لا يُثبت لشيخِه ابنِ عرفةَ في أكثرِ الفنونِ لشيء يعرفُه، ويَعيبُ تواليفه.
ويتعرَّضُ للتقي السُّبكيِّ، ومَنْ هو أعلى كالنَّوويِّ، بل لكثرةِ عُجبِه بنفسِه كانَ يَرى أنَّه لو لقيَ مالكًا وغيرَه مِن الأئمةِ لحاجَّهم، ويقولُ: إنَّه له الإفتاءُ بالشَّيءِ وضدِّه، ولا يُسألُ عن ذلكَ؛ لزعمهِ البلوغَ لرُتبةِ الاجتهاد، ولم يكنْ لأهلِ عصرِه بكبيرِ فضلٍ معترفًا، ولا كانَ في البحثِ مُنصفًا، لحرصِه على ترويجِ حجَّتِه، وإعلاءِ رتبته، وسارعَ لدعوى اتَّفاقِ مذهبِه، بل لدعوى الإجماعِ ممِّا لا يخلو في كلِّه مِن النِّزاعِ.
ولو أعرضَ عن جميعِ هذهِ الأمورِ، وعن إدخالِ نفسِه فيما للنَّاسِ مِن الشُّرورِ، وكذا عمَّا يُنسبُ إليه مِن اتِّباعِ الهوى في الفتنِ، لكانَ الثَّناءُ عليه أكثرَ وأجملَ، ولكنْ لعلَّ بخدمتِه للعلمِ يُكفَّرُ عنه كلُّ ذلكَ.
وكانَ حافظًا للنُّكتِ المستظرفة، والأشعارِ البديعةِ اللَّطيفةِ، ويُنشدُها بصوتٍ حسنٍ، ونغمةٍ مُطربة، كلُّ ذلكَ معَ المروءةِ ولُطفِ العِشرة، وقد حوى كتبًا كثيرةً، ونالَ دنيا واسعةً بالنِّسبةِ إلى مثلِه بعدَ ضِيقِ معيشةٍ، فأذهبَها بتسليفِها بالحرمين لمَنْ لا يتيسَّرُ منه