للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وكنت أوَّلَ أولادِهِ، ولم يصدَّه العيالُ عن شيءٍ من الأوراد، والأفعالِ الصالحةِ التي كان عليها، بل كانَ لا يزالُ مشغولًا بِنَفْسِهِ، وبذكرِه، وقراءَتِهِ، واشتغالِهِ بكتُبِ العلمِ، وفي بيته عيالٌ كثيرونَ ليس بينه وبينهم إلا المصاهَرَةُ فقط، ومع ذلك فلم يكن يُهِمُّهُ شأنُهُم، ولا شأنُ أولادِهِ، بل قدَّمَ اشتغالَهُ بالآخرةِ على كلِّ شيءٍ، حتى كأنه خَليٌّ عن التَّعلُّقاتِ، وكلَّما نظرتُ إلى حالي، وسَعَةِ مسكني، وضيقِ خُلُقِي، وقِلَّةِ صبري، مَعَ ما رَأَيْتُهُ من ضيقِ مَسْكَنِهِ، وسَعَةِ خلقِهِ، وطولِ صبرِهِ، صَغُرَتْ عندي نفسي، وأَيِسْتُ مِنْ خيري، وأنَّى لي بِحُسْنِ أخلاقِهِ، وحِفْظِ لِسَانِهِ؟!

ولقد حكى الشَّيخُ محمدٌ، والشيخُ عمرُ الخرَّازَينِ (١) أنَّ والدي لما حجَّ معهما، وكانوا رفاقًا كثيرةً مع عدَّةِ جمَّالينَ، يتحدَّثون عن سِيرةِ رُكَّابِهم معهم، فقال لهم جمَّالُ والدي: يا جماعة، أمَّا رفيقي فأخرسُ، لم يتكلَّم منذُ حَمَلْتُهُ بكلمةٍ، فقال له رفيقُهُ: بلى والله، قد سمعتُه يومًا يتكلَّمُ مع أصحابه، وكانت هذه طريقتَهُ سفرًا، وحضرًا، لا يراه أحدٌ جالسًا بطريقٍ، ولا في حَلَقَةِ فضولٍ، ولا يتكلَّمُ إلا جوابًا، وإن جاوبَ لم يفتَحْ للفضولِ بابًا.

كان القاضي فخرُ الدِّين ابنُ مسكينٍ، الفقيهُ، الشافعيُّ، إذا لَقِيَنِي يُقبِلُ عليَّ، ويُسلِّمُ، ويقول: رَحِمَ اللهُ والدَكَ (٢)، ما كانَ أحسنَه، وأكثرَ أدبَه وخيرَه، اتفقتْ لي


(١) تقدَّمت ترجمتهما.
(٢) في الأصل: والده، والتصويب من "نصيحة المشاور"، وهو الذي يقتضيه سياق الكلام.