ورافقَهُ إلى مَكَّةَ مَعَ رفيقِهِ عَبدِ الحميدِ المُوغانيِّ، ثُمَّ أقامَا عندَهُ بِمكَّةَ مدَّةً طويلةً، واكتسبا منهُ مآثرَ جليلةً، وانتقلا إلى المدينةِ. وكَانَ ذا محُاضرةٍ كأنَّها حلاوةٌ -وعَبَّرَ عن حاصلِ مَا تَقَدَّمَ بأحسنِ عبارةٍ- ثُمَّ قَالَ: أخبرنا جماعةٌ عَن يَحيَى بنِ مُوسى القُسَنْطينيِّ عنهُ قالَ: لمَّا خرجنَا مَعَ الشَّيخِ نجمِ الدِّينِ مِن الإسكندريةِ سلكنا طريقَ الصَّعيدِ نُقيمُ النَّفلَ والفَرضَ، وليس لنا قوتٌ إلا من نباتِ الأرضِ، فلمَّا قَرُبنَا من مدفنِ الشَّيخِ أبي الحسنِ الشَّاذليِّ، قَالَ الشَّيخُ نجمُ الدِّينِ: إذَا كَانَ غدًا إن شاءَ اللهُ ستزورونَ قبرَ الشَّيخِ أبي الحسنِ، وضيافتُكُم عندهُ زبيبٌ ولوزٌ، فكَانَ كَذَلكَ. فلمَّا وصلنَا عيذابَ (١) تلقَّانا النَّاسُ بالضِّيافاتِ الكثيرةِ الحافلةِ، فجعلَ الشَّيخُ يبعثُ إلى كلِّ واحدٍ واحدٍ من أهلِ القافلةِ، فندمُوا عَلَى تفريطِهِم في حقِّ الشَّيخِ وأصحابِهِ، وتقصيرِهِم فيما كَانَ ينبغي من إرحابِ رحابِهِ.
ثُمَّ قَالَ لنا الشَّيخُ: يا يَحيَى وعَبدَ الحميدِ، لن تجوعَا بَعدَ هذه الجوعةِ الَّتِي حصَلَت لكُمَا إلى أن تلقيا اللهَ تَعَالى، فكَانَ كَذلكَ. وحُكيَ لنا أنَّهُ كَانَ في ابتداءِ أمرِهِ مُشتغلًا بالعلمِ، وكَانت لَهُ أملاكٌ كثيرةٌ وأموالٌ جَمّةٌ فتركَهَا، وصحبَ كثيرًا من مشايخِ عصرِهِ، وسألَهُ أن يدلَّهُ عَلَى طريقِ السُّلوكِ، فقَالَ لهُ: نعم، اكشف لي عن مسألةِ كذَا وكذَا وأخبرني بما قيلَ فيها، فذهبَ وكشفَ ثُمَّ رجعَ وأخبرَهُ بِما رَأى، فقالَ لهُ: يا ولدي، أَقبِل عَلَى الاشتغالِ بالعلمِ، فراجَعَهُ في السُّؤالِ عن طريقِ السُّلوكِ، فلمَّا ألحَّ عليهِ في بعضِ
(١) عيذاب بليدة على ضفة بحر القلزم، وهي مرسى المراكب التي تقدم من عدن إلى الصعيد. انظر: "معجم البلدان" ٤/ ١٧١.