للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

البلاد عن أسبابها، وهتكوا ببارع معرفتهم ولطف فطنتهم سجف (١) حجابها، حتى وقفوا على سرها، ووقعوا على خبيئة أمرها، فأبانوا عللها، وقيدوا مهملها، وأقاموا محرفها وعانوا سقيمها (٢)، وصححوا مصحَّفَها، وأبرزوا في كل ذلك تصانيف كثرت صنوفها وظهر شفوفها (٣)، واتخذها العالمون قدوة، ونصبها العالمون قِبْلة، فجزاهم الله عن سعيهم الحميد أحسن ما جازى به أحبار ملة.

ثم كَلَّتْ بعدهم الهمم، وفترت الرغائب، وضعف المطلوب والطالب، وقلَّ القائم مقامهم في المشارق والمغارب، وكان جهد المبرز في حمل علم السنن والآثار، نقلَ ما أثبت في كتابه، وأداء ما قيده فيه دون معرفة لخطيئه من صوابه، إلا آحادًا من مهرة العلماء، وجهابذة الفهماء، وأفرادًا كدراري نجوم السماء، ولعمر الله إن هذه بعد لخطة أعطى صاحب الشريعة للمتصف بها من الشرف والأجر قسطه، إذا وفى عمله شرطه، وأتقن وعيه وضبطه، فقال في الحديث الصحيح: (نَضَّر الله أمرًا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرُبَّ حامل فقه ليس بفقيه ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه) (٤).

وقد كان فيمن تقدم من هو بهذه السبيل من الاقتصار على أداء ما سمع وروى، وتبليغ ما ضبط ووعى، دون التكلم فيما لم يحط به علمًا، أو التسوّر على تبديل لفظ أو تأويل معنى، وهي رتبة أكثر الرواة والمشائخ.

وأما الإتقان والمعرفة، ففي الأعلام والأئمة، لكنهم كانوا فيما تقدم كثرة وجملة، وتساهل الناس بعدُ في الأخذ والأداء، حتى أوسعوه اختلالًا، ولم يألوه خبالًا، فتجد الشيخ المسموع بشأنه وثنائه، المتكلَّف شاق الرحلة للقائه، تنتظم به المحافل، ويتناول الأخذ عنه ما بين عالم وجاهل، وحضوره كعدمه، إذ لا يحفظ حديثه، ولا يتقن أداءه وتحمله، ولا يمسك أصله، فيعرف خطأه


(١) (سجف) هو الستر.
(٢) (وعانوا سقيمها) أي أظهروا، في اللغة: عنت الأرض بالنبات: أظهرته.
(٣) (شفوفها) أي فضلها.
(٤) أخرجه الترمذي (٢٦٥٧) وابن ماجة (٢٣٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>