الحافظ أبي ذر الهروي إجازة قال: نا الوليد بن بكر المالكي قال: نا أحمد بن محمد أبو سهل العطار بالإسكندرية قال: كان أحمد بن ميسر يقول: الإجازة عندي على وجهها خير وأقوى في النقل من السماع الرديء.
وهبك صح هذا كله في مراعاة صدق الخبر، أين تحري المروي وتعيين المخبر؟ لا جرم بحسب هذا الخلل وتظاهر هذه العلل ما كثر في المصنفات والكتب التغيير والفساد وشمل ذلك كثيرًا من المتون والإسناد، وشاع التحريف وداع التصحيف وتعدى ذلك منثور الروايات إلى مجموعها وعلم أصول الدواوين مع فروعها، حتى اعتنى صبابة أهل الإتقان والعلم، وقليل ما هم بإقامة أودها ومعاناة رمدها، فلم يستمر على الكافة تغييرها جملة لما أخبر ﵇ عن عدول خَلَفِ هذه الأمة، وتكلم الأكياس والنقاد من الرواة في ذلك بمقدار ما أوتوه، فمن بين غال ومقصر ومشكور عليم ومتكلف هجوم، فمنهم من جسر على إصلاح ما خالف الصواب عنده وغير الرواية بمنتهى علمه وقَدْر إدراكه، وربما كان غلطه في ذلك أشد من استدراكه لأنه متى فتح هذا الباب لم يوثق بعد بتحمل رواية ولا أُنس إلى الاعتداد بسماع مع أنه قد لا يسلم له ما رآه ولا يوافق على ما أتاه، إذ فوق كل ذي علم عليم.
ولهذا سد المحققون باب الحديث على المعنى وشددوا فيه، وهو الحق الذي أعتقده ولا أمتريه إذ باب الاحتمال مفتوح والكلام للتأويل معرض، وأفهام الناس مختلفة والرأي ليس في صدر واحد، والمرء يفتن بكلامه ونظره والمغتر يعتقد الكمال في نفسه، فإذا فتح هذا الباب وأُوردت الأخبار على ما ينفهم للراوي منها لم يتحقق أصل المشروع، ولم يكن الثاني بالحكم على كلام الأول بأولى من كلام الثالث على كلام الثاني، فيندرج التأويل وتتناسخ الأقاويل، وكفى بالحجة على دفع هذا الرأي القائل دعاؤه ﵇ في الحديث المشهور المتقدم لمن أدى ما سمعه كما سمعه بعد أن شرط عليه حفظه ووعيه.
ففي الحديث حجة وكفاية وغنية في الفصول التي خضنا فيها آنفًا من صحة الرواية لغير الفقيه، واشتراط الحفظ والوعي في السماع والأداء كما سمع وصحة النقل وتسليم التأويل لأهل الفقه والمعرفة، وإبانة العلة في منع نقل الخبر على المعنى لأهل العلم وغيرهم بتنبيهه على اختلاف منازل الناس في الدراية وتفاوتهم في المعرفة وحسن التأويل.
والصواب من هذا كله لمن رزق فهمًا وأوتي علمًا إقرار ما سمعه كما سمعه ورواه والتنبيه على ما انتقده في ذلك ورآه، حتى يجمع الأمرين ويترك لمن جاء بعد النظر في الحرفين، وهذه كانت طريق السلف فيما ظهر لهم من الخلل فيما رووه من إيراده على وجهه وتبيين الصواب فيه أو طرح الخطأ البين، والإضراب عن ذكره في الحديث جملة، أو تبييض مكانه والاقتصار على رواية الصواب أو الكناية عنه بما يظهر ويفهم لا على طريق القطع.
وقد وقع من ذلك في هذه الأمهات ما سنوقف عليه ونشير في مَظَانّه إليه وهي الطريقة السليمة ومذاهب الأئمة القويمة، فأما الجسارة فخسارة فكثيرًا ما رأينا من نبَّه بالخطأ على الصواب فعكس الباب ومن ذهب مذهب الإصلاح والتغيير فقد سلك كل مسلك في الخطأ ودلاه رأيه بغرور.