قال الشيخ الفقيه الحافظ الناقد القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض رحمه الله تعالى ورضي عنه الحمد لله مُظهر دينه المبين، وحائطه من شبه المبطلين، وتحريف الجاهلين، بعث محمدًا ﵇ إلى كافة خلقه، بكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وضمن تعالى حفظه؛ فما قدر العدو على إدخال الخلل في لفظه، مع كثرة الجاحد الجاهد على إطفاء نوره، وظهرة المعادي المعاند لظهوره، وبيَّنَ على لسان نبيه من مناهجه وشرعته، ما وكل نفي التحريف عنه لعدول أعلام الهدى من أمته، فلم يزالوا رضوان الله عليهم يذبون عن حمى السنن، ويقومون لله بهداهم القويم الحسن، وينبهون على من يتهم بهتك حريمها، ومزج صحيحها بسقيمها، حتى بان الصدق من المين (١)، وبان الصبح لذي عينين، وتميز الخبيث من الطيب، وتبين الرشد من الغي، واستقام ميسم الصحيح، وأبدى عن الرغوة الصريح.
ثم نظروا ﵏ بعد هذا التمييز العزيز والتصريح المريح، نظرًا آخر في الصحيح، فيما يقع لآفة البشرية من ثقات رواته من وَهْمٍ وغفلة، فنقبوا في البلاد عن أسبابها، وهتكوا ببارع معرفتهم ولطف فطنتهم سجف حجابها، حتى وقفوا على سرها، ووقعوا على خبيئة أمرها، فأبانوا عللها، وقيدوا مهملها، وأقاموا محرفها وعانوا سقيمها، وصححوا مصحفها، وأبرزوا في كل ذلك تصانيف كثرت صنوفها وظهر شفوفها، واتخذها العالمون قدوة ونصبها العالمون قِبْلة، فجزاهم الله عن سعيهم الحميد أحسن ما جازى به أحبار ملة.
ثم كلت بعدهم الهمم، وفترت الرغائب، وضعف المطلوب والطالب، وقلَّ القائم مقامهم في المشارق والمغارب، وكان جهد المبرز في حمل علم السنن والآثار، نقل ما أثبت في كتابه، وأداء ما قيده فيه دون معرفة لخطيئه من صوابه، إلا آحادًا من مهرة العلماء، وجهابذة الفهماء، وأفرادًا كدراري نجوم السماء، ولعمر الله إن هذه بعد لخطه أعطى صاحب الشريعة للمتصف بها من الشرف والأجر قسطه، إذا وفى عمله شرطه، وأتقن وعيه وضبطه، فقال ﵇ في الحديث الصحيح: "نَضَّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرُبَّ حامل فقه ليس