ولهذا سدَّ المحققون باب الحديث على المعنى وشددوا فيه، وهو الحق الذي أعتقده ولا أمتريه (١)، إذ باب الاحتمال مفتوح، والكلام للتأويل معرض، وأفهام الناس مختلفة، والرأي ليس في صدر واحد، والمرء يفتن بكلامه ونظره، والمغتر يعتقد الكمال في نفسه.
فإذا فتح هذا الباب وأوردت الأخبار على ما ينفهم للراوي منها لم يتحقق أصل المشروع، ولم يكن الثاني بالحكم على كلام الأول بأولى من كلام الثالث على كلام الثاني، فيندرج التأويل وتتناسخ الأقاويل، وكفى بالحجة على دفع هذا الرأي القائل دعاؤه ﵇ في الحديث المشهور المتقدم لمن أدى ما سمعه كما سمعه بعد أن شرط عليه حفظه ووعيه.
ففي الحديث حجة وكفاية وغنية في الفصول التي خضنا فيها آنفًا من صحة الرواية لغير الفقيه، واشتراط الحفظ والوعي في السماع والأداء كما سمع، وصحة النقل وتسليم التأويل لأهل الفقه والمعرفة، وإبانة العلة في منع نقل الخبر على المعنى لأهل العلم وغيرهم بتنبيهه على اختلاف منازل الناس في الدراية، وتفاوتهم في المعرفة وحسن التأويل.
والصواب من هذا كله لمن رزق فهمًا وأوتي علمًا، إقرار ما سمعه كما سمعه ورواه، والتنبيه على ما انتقده في ذلك ورآه، حتى يجمع الأمرين ويترك لمن جاء بعده النظر في الحرفين، وهذه كانت طريق السلف، فيما ظهر لهم من الخلل فيما رووه، من إيراده على وجهه، وتبيين الصواب فيه أو طرح الخطأ البين، والإضراب عن ذكره في الحديث جملة، أو تبييض مكانه والاقتصار على رواية الصواب، أو الكناية عنه بما يظهر ويفهم لا على طريق القطع.
وقد وقع من ذلك في هذه الأمهات ما سنوقف عليه، ونشير في مَظَانّة إليه، وهي الطريقة السليمة ومذاهب الأئمة القويمة، فأما الجسارة فخسارة،