للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كان صالحا تقيا، كثير العبادة والتلاوة، رافعا لعلم الجهاد، ملتزما للصلوات في الجامع، وله غزوات مشهودة، منها غزوة «بلي» [١] التي يضرب بها المثل. وذلك أنّ ابن حَفْصون حاصر حصن بلي في ثلاثين ألفًا، فخرج الأمير عبد الله من قُرْطُبَة في أربعة عشر ألف مقاتل، فهَزَم ابن حَفْصُون، وتبعه قتْلًا وأسرًا، حتّى قِيلَ: لم ينج من الثّلاثين ألفًا إلّا النّادر. وكان ابن حَفْصُون من الخوارج. وكان عبد الله أديبًا عالمًا.

ذكر ابن حزم قَالَ: ثنا محمد بن عبد الأعلى القاضي، وعليّ بن عبد الله الأديب قالا: كان الوزير سليمان بن وانسوس [٢] جليلًا أديبًا، من رؤساء البربر، فدخل على الأمير عبد الله بن محمد يومًا، وكان عظيم اللّحْية، فلمّا رآه الأمير مقبلًا أنشد:

هِلَّوفة [٣] كأنّها جوالق ... نكراء لا بارك فيها الخالقُ

للعمل في حافاتها نفائق ... فيها لباغي المتّكا مرافقُ

وفي احْتدام الصيّف ظلٌّ رائقُ ... إنّ الّذي يحملها لمائقُ

ثم قَالَ: اجلس يا بربريّ: فجلس مسالمًا [٤] ، فَقَالَ: أيّها الأمير، إنما كان النّاس يرغبون في هذه المنزلة ليدفعوا عن أنفسهم الضيم. فأمّا إذا صارت جالبة للذُّلّ فلنا دُورٌ تُغْنينا عنكم، فإن حُلْتُم بيننا وبينها فلنا قبور [٥] تَسَعنا.

ثم اعتمد على يده وقام ولم يسلِّم. فغضب الأمير وأمر بعزله، وبقي لذلك مدّة. ثمّ وَجَدَ الأمير لفْقده ونصيحته، فقال: لقد وَجَدْتُ لفقْد سليمان تأثيرًا، وإن استعطفته كان ذلك غضاضةً علينا، وَلَوَدِدْتُ أنّه ابتَدَأَنَا بالرَّغْبة.


[١] انظر عنها في: البيان المغرب ٢/ ١٢٣، وتاريخ ابن خلدون ٤/ ١٣٥.
[٢] انظر عن: سليمان بن وانسوس في: الحلّة السيراء ١/ ١٦٠- ١٦١.
[٣] الهلّوفة: اللحية الضخمة.
[٤] في الحلّة السيراء: «فجلس وقد غضب» .
[٥] في الحلّة السيراء ١/ ٢٣ «فلنا دور» .