للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سادس ربيع الآخر. وكان ليلتئذٍ صلّى العشاء، وجلس مع مدرّس مدرسته، وتحدَّث معه ما شاء، وطالت المسامرة وانفصل إِلَى منزله صحيح البدَن، وقال لغلامه: رتّب حوائجَ الحمَّامْ، وعرّفني حتّى أقضي منّي المنامْ. فوافاه سحرا للإعلام، فما اكترث بصوت الغلام، ولم يدر أنّ كَلْم الحِمام حَمَى الكلام، وأنّ وثوقه بطهارة الكوثر أغناه عن الحمّام، فبادر إليه ولده فألفاه وهو ساكت باهت، فلبِث يومه لا يُسمع له إلّا أنين خفِيّ، ثُمَّ قضى سعيدا ولم يبق في حياته عملا صالحا إلّا وقدَّمه، ولا عهدا فِي الجنَّة إلّا أحكمه، ولا عقدا فِي البرّ إلا أبرمه، فأنْ صَنائعه فِي الرِّقاب، وأوقافه على سبل الخيرات متجاوزة الحساب، لا سيّما أوقافه لفكاك أسرى المسلمين إِلَى يوم الحساب، وأعان الطّلبة الشّافعيَّة والمالكيَّة عند داره بالمدرسة، والأيتام بالكتّاب.

وكان رحمه اللَّه للحقوق قاضيا، وَفِي الحقائق ماضيا. سلطانُه مُطاع، والسّلطان له مطيع، ما افتتح الأقاليم إلّا بأقاليد آرائه، ومقاليد غِناه وعنائه، وكنتُ من حسناته محسوبا، وإلى مناسب آلائه منسوبا، أعرِف صناعته، ويعرف صناعتي، وأعارِضُ بِضاعتَه الثّمينة بمُزْجاة بِضاعتي. وكانت كتابته كتائبَ النّصر، وبراعته رائعة الدّهر، ويراعته بارئة للبرّ، وعبارته نافثة في عقد السّحر، وبلاغته للدّولة مجمّلة، وللمملكة مكمّلة، وللعصْر الصّلاحيّ على سائر الأعصار مفضّلة، وهو الّذي نسخ أساليب القدماء بما أقدمه من الأساليب، وأغربه من الإبداع، وأبدعه من الغريب. وما ألفيته كرَّر دعاء فِي مكاتبة، ولا تردَّد لفظا فِي مخاطبةٍ. بل تأتي فصوله مبتكرة مبتدعة مبتَدَهة، لا مفتكرة بالعُرف والعرفان مُعَرَّفة لا نِكرة. وكان الكرام في ظلّه يقيلون، ومن عثرات النّوائب بفضله يستقيلون، وبعزّ حمايته يعزّون. فإلى من بعده الوفادة؟

وممّن الإفادة؟ وفي من السّيادة؟ ولمن السّعادة؟

وقال ابن خلّكان [١] في ترجمته: وزر للسّلطان صلاح الدّين.


[١] في وفيات الأعيان ٣/ ١٥٨.