للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الشّيْخ الزّاهد، العابد، العالم، فخرُ الدّين، أَبُو الفداء الدّمشقيّ.

كان كاتبا، أديبا، شاعرا، خدم فِي الجهات، وتزهَّد بعد ذَلِكَ.

وُلِد سنة ثلاثين وستّمائة، ودخل فِي جملة الشعراء عَلَى الملك النّاصر بدمشق، فلمّا انجفل النّاسُ ندبه هولاكو إلى مصر. دخلها وترك الخدمة وتزهّد، وأقبل عَلَى شأنه، ولزم العبادة، فاجتمع بالشيخ محيي الدّين ابن سُرَاقة فقال لَهُ: إنْ أردت هذا المعنى فعليك بتصانيف محيي الدّين ابن العربيّ. فلمّا رجع إلى دمشق انقطع ولزم العبادة، وأقبل عَلَى كتب ابن العربيّ فنسخها وتلذّذ بها. وكان يلازم زيارة قبره ويبالغ فِي تعظيمه. والظّنّ بِهِ أنّهُ لم يقف عَلَى حقيقة مذهبه، بل كَانَ ينتفع بظاهر كلامه، ويقف عَنْ مُتشابهه، لأنّه لم يُحفظ عَنْهُ ما يُشينه فِي دينه من قول ولا فعل، بل كَانَ عبدا قانتا للَّه، صاحب أوراد وتهجُّد، وخوف، واتّباع الأثر، وصدق فِي الطّلب، وتعظيم لحُرُمات اللَّه تعالى. لم يدخل فِي تخبيطات ابن العربيّ، ولا دعا إليها. وكان عَلَيْهِ نور الإِسْلَام وضوء السُّنّة. رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وكان ساكنا بالعزيزيّة، حافظا لوقته، كثير الحياء والتّواضع والسّكينة، كتب الكثير بخطّه، ولم يخلّف شيئا من الدّنيا، ولا كَانَ يملك طاسة. وفرغت نفقته يوم موته.

وكان شيخنا ابن تيميّة يعظّمه ويبالغ، حتّى وقف عَلَى أبيات لَهُ أوّلها:

وحياتكم ما إن أرى لكم سوى ... إذ أنتم عين الجوارح والقوى

فَتَأَلَّمَ لَهُ وَقَالَ: هَذَا الشِّعْرُ عَيْنُ الاتِّحَادِ. قُلْتُ: إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَنْظِمَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ» [١] . الحديث.


[١] رواه البخاري في الرقاق ٧/ ١٩٠ «عن محمد بن عثمان بن كرامة، حدّثنا خالد بن مخلد، حدّثنا سليمان بن بلال، حدّثني شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عن عطاء، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «إن الله قال: من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ فيما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وبصره الّذي يبصر به ويده التي يبطش بها-