للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يقولانه ولا تقبله نفسي. وأخذوا يدعونني إليه ويُجرون على ألسنتهم ذِكْر الفلسفة والهندسة والحساب، وأَخَذ يوجّهني إلى مَن يُعلّمني الحساب.

ثمّ قدِم بُخَارى أبو عبد الله النّاتِلّيّ [١] الفيلسوف، فأنزله أبي دارَنا. وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتّردّد فيه إلى الشّيخ إسماعيل الزّاهد [٢] .

وكنتُ من أجود السّالكين. وقد ألِفْتُ المناظرةَ والبحثَ. ثمّ ابتدأت على النّاتِلّيّ، بكتاب «إيساغوجي» [٣] . ولمّا ذكرَ لي أنّ حدَّ الجنس هو القول على كثيرين مختلفين بالنّوع، وأخذته في تحقيق هذا الحدّ ما لم يسمع بمثله، تعجَّب منّي كلَّ التَّعجُّب، وحذَّر والدي من شغْلي بغير العلم [٤] .

وكان أيّ مسألة قالها لي أتصورها خيرًا منه، حتّى قرأت ظواهر المنطق عليه، وأمّا دقائقه فلم يكن عنده منها خبر [٥] .

ثمّ أخذتُ أقرأ الكُتُب على نفسي، وأطالع الشُّروح حتّى أحكمتُ عِلمَ المنطق. وكذلك كتب إقليدس، فقرأتُ من أوّله إلى خمسة أشكال أو ستة عليه، ثمّ تولّيت بنفسي حلَّ باقيه [٦] .

وانتقلت إلى «المجَسْطيّ» ، ولمّا فَرَغْتُ من مقدِّماته وانتهيت إلى الأشكال الهندسيّة قال لي النّاتِلّيّ: حُلَّها وحدَك، ثمّ أعْرِضها لأبيَّن لك. فكم من شكلٍ ما عَرَفَه الرّجلُ إلّا وقتَ عَرَضْتُهُ عليه وفهّمته إيّاه. ثمّ سافر.

وأخذت في الطّبيعي والإلهيّ. فصارت الأبواب تنفتح عليّ، ورغبتُ في


[١] النّاتلي: بفتح النون وكسر التاء المنقوطة من فوقها باثنتين وفي آخرها اللام. هذه النسبة إلى ناتيل، وهي بليدة بنواحي آمل طبرستان، كثيرة الخضرة والمياه. (الأنساب ١٢/ ٩) .
[٢] وفيات الأعيان ٢/ ١٥٨.
[٣] وفيات الأعيان ٢/ ١٥٨.
[٤] قال ابن العبري: ولما وصل إلى تحديد الجنس الّذي يطلق على أنواع كثيرة قال لمعلّمه: هل يطلق الجنس على كلّ من الأنواع فردا فردا؟ قال المعلّم: نعم. اعترض الفتى فقال: إذا سألني سائل: من هو الإنسان؟ وقلت له: حيوان فقط، فهل يكون جوابي صائبا؟ قال المعلّم:
نعم. ناقضه التلميذ وقال: لست أواقفك، إذ لست بلا رويّة حتى إذا سألني سائل عن الحيوان الناطق من هو؟ أكتفي بالقول: إنه حيوان، وأسكت. ومنذئذ ترك المعلّم وجعل يطالع على حدة ويتفهّم ما يقرأ. (تاريخ الزمان ٨٨) .
[٥] في تاريخ مختصر الدول ١٨٧ «خبرة» .
[٦] تاريخ مختصر الدول ١٨٧.