للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لَهُ بأن يُدرسّ بالمدرسة النّظامية، فلم يجد بُدًا من ذَلِكَ.

قَالَ هذا كلّه وأكثر منه عَبْد الغافر بْن إسماعيل في «تاريخه» [١] . ثمّ قَالَ:

ولقد زُرْته مِرارًا، وما كنتُ أحدُسُ في نفسي مَعَ ما عهِدْته في سالف الزّمان عَليْهِ مِن الزَّعارة [٢] ، وإيحاش النّاس، والنّظر إليهم بعين الازدراء، والاستخفاف بهم كِبَرًا وخُيَلاء واغتِرارًا [٣] بما رُزِق مِن البسْطة في النُّطْق، والخاطر، والعبارة، وطلب الجاه، والعُلُوّ في المنزلة أنّه صار عَلَى الضّدّ، وتصفيّ مِن تِلْكَ الكُدُورات. وكنت أظنّ أنّه متلفّعٌ بجلباب التّكلّف، متنمّس بما صار إليه، فتحقّقت بعد السَّبْرِ والتَّنقير أنّ الأمر عَلَى خلاف المظنون، وأنّ الرجل أفاق بعد الجنون.

وحكى لنا في ليالٍ كيفيّة أحواله، مِن ابتداء ما ظهر لَهُ بطريق التّألُّه، وغَلَبة الحال عليه، بعد تبحُّره في العلوم، واستطالته عَلَى الكلّ بكلامه، والاستعداد الّذي خصّه الله بِهِ في تحصيل أنواع العلوم، وتمكّنه مِن البحث والنَّظَر، حتّى تبرَّم بالاشتغال بالعلوم العَريَّة عَنِ المعاملة، وتفكَّر في العاقبة، وما ينفع في الآخرة، فابتدأ بصُحبة أبي عليّ الفارْمَذيّ [٤] ، فأخذ منه استفتاح الطّريقة، وامتثل ما كَانَ يشير بِهِ عَليْهِ مِن القيام بوظائف العبادات، والإمعان في النّوافل، واستدامة الأذكار والاجتهاد والجدّ، طلبًا للنّجاة، إلى أن جاز تِلْكَ العِقاب، وتكلّف تِلْكَ المشاقّ، وما حصل عَلَى ما كَانَ يرومه.

ثمّ حكى أنّه راجع العلوم، وخاض في الفنون، وعاود الْجَدّ في العلوم الدّقيقة، والتقى بأربابها، حتّى تفتَّحت لَهُ أبوابها، وبقي مدّةً في الوقائع، وتكافؤ الآداب، وأطراف المسائل.

ثمّ حكى أنّه فُتِح عَليْهِ بابٌ مِن الخوف، بحيث شغله عن كلّ شيء،


[١] انظر طبقات ابن الصلاح ١/ ٢٦٠- ٢٦٢، وتبيين كذب المفتري ٢٩١- ٢٩٤.
[٢] الزّعارة: الشراسة وسوء الخلق.
[٣] في سير أعلام النبلاء ١٩/ ٣٢٤: «واعتزازا» .
[٤] الفارمذيّ: بسكون الراء وفتح الميم. نسبة إلى فارمذ. قرية من قرى طوس. وأبو علي الفارمذي هو: الفضل بن محمد بن علي، لسان خراسان وشيخها. توفي سنة ٤٧٧ هـ-. وقد تقدّمت ترجمته في الطبقة الثامنة والأربعين.