للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وحمله عَلَى الإعراض عمّا سواه، حتّى سهل ذَلِكَ عَليْهِ. وهكذا إلى أن ارتاض كلّ الرياضة، وظهرت لَهُ الحقائق، وصار ما كنّا نظن به ناموسا وتخلّقا، طَبْعًا وتحقُّقًا. وأنّ ذَلِكَ أثر السّعادة المُقَدَّرة لَهُ مِن الله تعالى.

ثمّ سألناه عَنْ كيفية رغبته في الخروج مِن بيته، والرجوع إلى ما دُعيَ إليه مِن أمر نَيْسابور. فقال معتذرًا: ما كنت أجوّز في ديني أن أقف عَنِ الدّعوة، ومنفعة الطّالبين، وقد خفَّ عليَّ أن أبوح بالحقّ، وأنطق بِهِ، وأدعو إِليْهِ. وكان صادقًا في ذَلِكَ [١] .

فلمّا خفّ أمر الوزير، وعلم أنّ وقوفه عَلَى ما كان فيه ظهور وحشة وخيال طلب جاهٍ وحِشْمة، ترك ذَلِكَ قبل أن يُتْرَك، وعاد إلى بيته، واتَّخَذَ في جواره مدرسة لطَلَبَة العِلْم، وخانقاه للصُّوفيّة، ووزّع أوقاته عَلَى وظائف الحاضرين، مِن ختْم القرآن، ومجالسته أصحاب القلوب، والقعود للتّدريس لطالبه، إلى أن توفّاه الله بعد مُقاساة أنواع مِن القَصْد، والمناوأة مِن الخصوم، والسّاعين بِهِ إلى الملوك، وكفاية الله إيّاه، وحِفْظه وصيانته عَنْ أن تنوشه أيدي النَّكَبَات، أو يُنتهكَ سِتْرُ دينه بشيءٍ مِن الزّلّات [٢] .

وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب حديث المصطفى صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، ومجالسة أهله، ومطالعة «الصّحيحَين» . ولو عاش لسبق الكلّ في ذَلِكَ الفنّ بيسيرٍ مِن الأيّام. ولم يتَّفق لَهُ أن يروي، ولم يُعْقِبْ إلّا البنات.

وكان لَهُ مِن الأسباب إرثًا وكسْبًا ما يقوم بكفايته، وقد عُرِضَت عليه أموال فما قَبِلَها [٣] .

وممّا كَانَ يُعترض بِهِ عَليْهِ، وقوعُ خَلَلٍ مِن جهة النَّحْو يقع في أثناء كلامه، ورُوجع فيه، فأنْصف من نفسه، واعترف بأنّه ما مارسه، واكتفى بما كَانَ يحتاج إليه في كلامه، مَعَ أنّه كَانَ يؤلّف الخُطَب، ويشرح الكُتُب بالعبارة التّي يعجز الأدباء والفقهاء عن أمثالها.


[١] طبقات ابن الصلاح ١/ ٢٦٢، تبيين كذب المفتري ٢٩٤، ٢٩٥.
[٢] انظر: طبقات ابن الصلاح ١/ ٢٦٣، وتبيين كذب المفتري ٢٩٥، ٢٩٦.
[٣] تبيين كذب المفتري ٢٩٦.