للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثُمَّ اسْتَعْرَضَهُ الْقُرْآنُ، فَقَرَأَهُ لَهُمْ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَرَكِبَ حِصَانًا وَسَاقَهُ، فَتَعَجَّبُوا وَعَدُّوا ذَلِكَ آيَةً، وَصَحَّ لابْنِ تُومَرْتَ بِذَلِكَ مَا أَطْوَاهُ عَلَى نُفُوسٍ سَلِيمَةٍ لَا يَعْرِفُونَ بَوَاطِنَ الْأُمُورِ، فَتَحَقَّقَ تَصْدِيقُهُمْ إِيَّاهُ. فَقَامَ خَطِيبًا وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ٨: ٣٧ [١] فقال: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ ٣: ١١٠ [٢] . وَهَذَا الْبَشِيرُ مُطَّلِعٌ عَلَى الأَنْفُسِ مُحَدَّثٌ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ فِي أُمَّتِي مُحَدَّثِينَ. وَإِنَّ عُمَرَ مِنْهُمْ» [٣] . وَقَدْ صَحِبَنَا أَقْوَامٌ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى سِرِّهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، وَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِمْ، وَيُتَمِّمُّ الْعَدْلَ فِيهِمْ.

ثُمَّ نُودِيَ فِي جِبَالِ المصامدة: من كان مطيعا للإمام فليقبل. فكانوا يأتون قبائل قبائل، فيُعرضون عليه، فيخرجون قومًا على يمينه، ويعدّهم من أهل الجنَّة، وقومًا على يساره، ويقول: هؤلاء شاكّون في الأمر. حتّى كان يؤتى بالرجل فيقول: رُدّوا هذا على اليمين، فإنّه تائب، وقد كان قبل كافرًا، ثمّ أحدَث البارحة توبة، فيَعترف بما أخبر به. واتّفقت له فيهم عجائب.

وكان يطلق أهل اليَسَار وهم يعلمون أنّ مآلهم إلى القتْل، فلا يفرّ منهم أحد. وكان إذا اجتمع منهم كثير قتلهم قراباتُهُم، يقتل الأب ابنه، والأخُ أخاه، وابن العمّ ابن العَمّ. فالّذي صحّ عندي إنّه قُتِلَ منهم سبعون ألفًا على هذه الصّفة، ويسمُّونها التّمييز.

ولما كمل التّمييز وجّه جُمُوعه مع البشير نحو أَغْمات، فالتقوا المرابطين فهزموهم، وَقُتِلَ خلْقٌ من المَصَامِدة لكونهم ثبتوا، وَجُرِحَ عمر الهِنْتانيّ جراحات، فحملوه على أعناقهم وهو كالميت، لَا يَنْبض له عِرْق. فقال لهم البشير: إنّه لَا يموت حتّى يفتح البلاد، ويغزو في الأندلس. وبعد مدَّة من استماتته فتح عينيه، فزادهم ذلك إيمانًا بأمرهم. ولّما أَتَوْا عزّاهم ابن تُومَرْت وقال: يَوْمٌ بيوم، وكذلك حرب الرّسل.


[١] سورة الأنفال، الآية ٣٧.
[٢] سورة آل عمران، الآية ١١٠.
[٣] أخرجه البخاري ٧/ ٤٢ (٣٦٨٩) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، باب مناقب عمر، من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدّثون، فإن يك من أمّتي أحد فإنه عمر» . وأخرجه مسلم (٢٣٩٨) ، والترمذي (٣٦٩٤) من حديث عائشة.