للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان قد سافر فوقع في أسر الرّوم، وبقي سنةً ونصفًا، وقيّدوه وغَلُّوه، وأرادوه أنّ ينطق بكلمة الكُفر، فلم يفعل، وتعلَّم منهم الخطّ الرّوميّ.

وسمعته يقول: من خَدَم المحابر خَدَمته المنابر.

وسمعته يقول: يجب على المعلّم أنّ لَا يعنف، وعلى المتعلم أنّ لَا يأنف [١] .

ورأيته بعد ثلاثٍ وتسعين سنة صحيح الحواسّ، وعلى المتعلم أنّ لَا يأنف [١] .

ورأيته بعد ثلاثٍ وتسعين سنة صحيح الحواس، لم يتغير منها شيء، ثابت العقل، يقرأ الخطّ الدّقيق من بُعْد.

ودخلنا عليه قبل موته بمُديدة فقال: نزلت في أُذني مادة، فقرأ علينا من حديثه، وبقي على هذا نحوًا من شهرين، ثمّ زال ذلك، وعاد إلى الصّحَّة، ثمّ مرض فأوصي أنّ يُعَمّق قبره زيادةً على العادة، وأن يُكتب على قبره قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ٣٨: ٦٧- ٦٨ [٢] ، وبقي ثلاثة أيّام لا يفتر من قراءة القرآن، إلى أنْ تُوُفّي قبل الظُهر ثاني رجب.

وقال ابن السّمعانيّ: ما رأيت أجمع للفنون منه، نَظَر في كلّ علم، وبرع في الحساب والفرائض، وسمعته يقول: ثُبِت من كلّ عِلْم تعلَّمته إلّا الحديث وعِلْمه. ورأيته وما تغير من حواسه شيء. وكان يقرأ الخط البعيد الدّقيق. وكان سريع النَّسخ، حَسَن القراءة للحديث. وكان يشتغل بمطالعة الأجزاء الّتي معي، وأنا مُكِبُّ على القراءة، فاتفق أنّه وجد جزءا من حديث أبي الفضل الخُزاعيّ، قرأته بالكوفة على الشّريف عمر بن إبراهيم الحُسينيّ [٣] ، بإجازته من محمد بن علي بن عبد الرحمن العَلَويّ [٤] ، وفيه حكايات مليحة، فقال: اتركه عندي. فلمّا رجعت من الغد أخرج الجزء وقد نَسَخَه جميعه، وقال: اقرأه حتّى أسمعه.


[١] زاد ابن الجوزي: «كن عَلَى حذر من الكريم إذا أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته، ومن العالم إذا أحرجته، ومن الأحمق إذا مازحته، ومن الفاجر إذا عاشرته» .
[٢] سورة ص، الآيتان ٦٧ و ٦٨.
[٣] في الأصل: «الحسني» ، والتصحيح من ترجمته التي ستأتي في وفيات سنة ٥٣٩ هـ. في هذا الجزء.
[٤] هو: أَبُو عَبْد الله مُحَمَّد بْن علي بْن الحسن بْن عَبْد الرحمن العلويّ، ولد سنة ٣٦٧ وتوفي سنة ٤٤٥ هـ. وهو صاحب «الفوائد المنتقاة والغرائب الحسان عن الشيوخ الكوفيين» التي انتخبها الحافظ أبو عبد الله محمد بن علي الصوري. وقد نشرناه محقّقا وصدر عن دار الكتاب العربيّ، بيروت ١٤٠٧ هـ. / ١٩٨٧ م.