بإساءة التّدبير، وقَتَل نفسه بشدَّة حرصه وحركته قبل وقته، وأراد أن يتشبّه بالإسكندر، وأين الْأعمى من المُبصر؟ وأين الوليّ من رجل تركيّ؟ فإنّ الإسكندر مع فضله وعدله وإظهاره كلمة التّوحيد، كان في صحبته ثلاثمائة حكيم، يسمع منهم ويطيع، وكان معلّمه أرسطوطاليس نائبة عَلَى بلاده، ولا يحلّ ولا يعقد إِلَّا بمشورته ومُراسلته في استخراج رأيه.
كذا قَالَ الموفّق، وأخطأ في هَذَا كغيره، فليس إسكندر صاحب أرسطوطاليس هو الّذي قصّ الله سبحانه قصّته في القرآن، فالذي في القرآن رجل مؤمن، وأمّا الآخر فمشرك يعبد الوثن، واسمه إسكندر بن فلبّس المقدونيّ، عَلَى دين الحُكماء- لَا رعاهم اللَّه- ولم يملك الدُّنْيَا ولا طافَها، بل هُوَ من جُملة ملوك اليونان.
ثُمَّ قَالَ الموفّق: وقد عُلم بالتّجربة والقياس أنّ كلّ ملكٍ لَا يكون قصده إقامة وبسط العدل والعمارة فَهُوَ وشيك الزوال، فأول ما صنع هَذَا أَنَّهُ ظاهر أمَّة الخطا، فنازلهم بأمَّة التَّتَر حَتَّى استأصلهم، ولم يُبق منهم إِلَّا من دخل تحت طاعته، وصار من عسكره. واستخدم سبعة أمراء من أخواله وجعلهم من قلب عسكره وخواصّه. ثمّ انتقل إلى أمَّة التَّتَر فمحقهم بالسّيف ولم يبق منهم إِلَّا مستسلم في زمرته. وكانت بلاد ما وراء النَّهْر في طاعة الخطا، وملوك بخارى وَسَمَرْقَنْد وغيرهما يؤدّون الْأتاوة إلى الخطا، والخطا يبسطون فيهم العدل. وكانت هذه الْأمم سدّا بين تُرك الصين وبيننا، ففتح هَذَا الملك بقلة معرفته هَذَا السّدّ الوَثيق. ثمّ أفسَد تلك الممالك والْأمصار، وأتى عَلَى إخراب البلاد وإفساد القلوب، وإيداعها أصناف الإحن والعداوات، وظنّ أَنَّهُ لم يُبق فيهم مَنْ يقاومه، فانتقل إلى خُرَاسَان وسِجستان وكِرمان ثمّ العراق وأَذْرَبِيجَان، وطمِعَ في الشَّام وَمِصْر، وحدَّثته نفسه بجميع أقطار الْأرض. وَكَانَ ذَلِكَ سهلا عَلَيْهِ قد يسَّرَه اللَّه لَهُ لو ساعده التوفيق بحُسن التدبير وأصالة الرأي والرّفق وعدم العَسف. وَكَانَ يستحضر التُّجَّار ويكشف منهم أخبار الممالك النائية.
وفي بعض اللّيالي قَالَ لي ابن أَبُو يَعْلَى وزير الملك الظاهر غازي: إِنَّ السُّلْطَان الليلة مهموم، لِما اتصل بِهِ من أخبار خُوَارِزْم شاه وطمعه في الشَّام.