للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولم يُمكن أحدا من الوصول إليه حَتّى الطّبيب والحاجب والفَرّاش، عليهم عيونٌ، فلا يَتَكَلَّم أحدٌ منهم فضلَ كلمة خَوْفًا منه، ولَمّا عُزِلَ، دخل الطّبيب والوكيل وغيرُهما، فانبسطوا، وحَكَوْا، وضَحِكُوا، فأُعِجبَ السُّلطانُ بذلك وقال: ما منعكم أن تفعلوا هذا فيما مضى؟ قالوا: خوفا مِن ابن شُكْر، قال:

فإذا قد كنتُ في حبسٍ، وأنا لا أشعُرُ.

وكان غرضه إبادَةَ أربابِ البيوتات، ويقرّب الأراذِلَ وشرارَ الفقهاء مثل الجمال المِصْريُّ، الّذي صار قاضيَ دمشق، ومثل ابن كسا البليسيّ، والمجد البَهْنسيّ، الّذي وَزر للأشرف. وكان هؤلاء يجتمعون حولَه، ويُوهِمونه أنَّه أكتبُ من القاضي الفاضل، بل ومِنَ ابن العَمِيد والصَّابي، وفي الفقه أفضلَ من مالك، وفي الشعر أكملَ مِن المتنبّي وأبي تمّام، ويحلفونَ على ذلك بالطَّلاق وأغلظِ الأَيْمان.

وكان لا يأكل مِن الدَّولة ولا فلْسًا، ويُظهر أمانة مفرطة، فإذا لاح لَهُ مالٌ عظيم احتجنه، وعُمِلَتْ لَهُ قبسة العَجلان [١] ، فأمر كاتبَه أن يكتُبَها ويردَّها وقال:

لا نستحلّ أن نأخُذَ منك ورقا. وكان لَهُ في كُلِّ بلدٍ من بلاد السُّلطان ضيعة أو أكثر في مصر والشام إلى خِلاط، وبلغ مجموعُ ذلك مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار يعني مُغلَّة. وكان يُكثر الإِدلال على العادل، ويُسخِطُ أولادَه وخواصَّه، والعادلُ يترضّاه بكُلِّ ما يقِدر عليه، وتكرَّر ذلك منه، إلى أن غضب منه على حَرَّان، فلمّا صار إلى مصر وغاضبه على عادته، فأقرّه العادلُ على الغضب، وأعرضَ عنه. ثمّ ظهر منه فسادٌ، وكثرةُ كلام، فأمر بنفْيه عن مصرَ والشام، فسكن آمِدَ، وأحسن إليه صاحبُها، فلمّا مات العادلُ عاد إلى مصر، وَوَزَرَ للكامل، وأخذ في المصادرات، وكان قد عَمِيَ، ورأيتُ منه جَلَدًا عظيما أنَّه كَانَ لا يستكين للنوائب، ولا يخضع للنكبات، فمات أخوه ولم يتغيَّر، ومات أولادُه وهُوَ على ذلك. وكان يُحمُّ حُمَّى قوية، ويأخذه النافِضُ [٢] ، وهو في


[١] أي: ورقة صغيرة. تشبيها بالقبسة- وهي الجذوة من النار يأخذها العجلان- وفي «الأساس» : ما أنت إلا كالقابس العجلان، أي: كالمقتبس، وما زورتك إلا كقبسة العجلان.
[٢] أي: الرعدة. والنافض: حمى الرعدة، يقال: أخذته حمّى نافض، وحمّى نافض وحمى بنافض.