للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المتوكّل، فأمر بإحضاره، فَحُمِل على البريد. فلمّا سمع كلامه ولَعَ به، وأحبّه وأكرمه، حتّى أنّه لو كان إذا ذكر العُّلماء يقول: إذا ذُكِر الصّالحون فحَيْ هَلا بذي النُّون [١] .

وقال عليّ بْن حاتم: سمعت ذا النّون يقول: القرآن كلام اللَّه غير مخلوق.

وقال يوسف بْن الْحُسَيْن: سمعت ذا النّون يقول: مهما تصوّر فِي وهْمك، فاللَّه بخلاف ذلك.

وقال: سمعت ذا النّون يقول: الاستغفار اسمٌ جامع لمَعانٍ كثيرة، أوّلهنّ:

الندم على ما مضى، والثّاني: العزْم على تَرْك الرجوع، والثالث: أداء كلّ فرضٍ ضيَّعْته فيما بينك وبين اللَّه، والرابع: ردّ المظالم فِي الأموال والأعراض والمصالحة عليها، والخامس: إذابة كلّ لحم ودم نَبَتَ على الحرام، والسّادس: إذاقة البَدَن ألَمَ الطّاعة كما وجدت حلاوة المعصية.

وعن عَمْرو السّرّاج قال: قلت لذي النّون كيف خلصتَ من المتوكّل وقد أمر بقتلك؟

قال: لمّا أوصلني الغلام إلى السّتر رَفعه ثُمَّ قال لي: ادخُل.

فنظرت فإذا المتوكّل فِي غُلالةٍ مكشوفَ الرأس، وعبيد الله قائم على رأسه متّكئ على السّيف. فعرفتُ فِي وجوه القوم الشّرّ. فَفُتِح لي باب، فقلت فِي نفسي: يا من ليس في السّماوات قطرات ولا فِي البحار قَطَرات، ولا فِي ديلج الّرياح دلجات، ولا فِي الأرض خبيئات، ولا فِي قلوب الخلائق خَطَرات إلا وهي عليك دليلات، ولك شاهدات، وبربوبيّتك معترفات، وفي قُدْرَتِك متحّيرات. فبالقُدرة التي تُجير بها من في الأرض والسّماوات إلا صلّيت على محمد وآل محمد، وأخذتَ قلبه منّي. فقام إليَّ المتوكّل يخطو، حتّى اعتنقني وقال: أتْعَبْناك يا أَبَا الفَيْض. إن تشأ تقيم عندنا فأقم، وإن تشأ أن تنصرف فانصرف.

فاخترت الانصراف [٢] .


[١] تهذيب تاريخ دمشق ٥/ ٢٧٤.
[٢] تهذيب تاريخ دمشق ٥/ ٢٧٧.