للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أُنبئتُ عَنْ حمّاد الحَرّانيّ قَالَ: سَمِعْتُ السّلَفيّ يَقُولُ: ما رأت عيني مثل الشَّيْخ أَبِي الوفاء بْن عقيل الفقيه. ما كَانَ أحد يقدر أن يتكلّم معه لغزارة عِلْمه، وحُسْن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوّة حُجّته. ولقد تكلَّم يومًا مَعَ شيخنا أَبِي الحَسَن إلْكيا [١] في مسألةٍ، فقال لَهُ شيخنا: هذا لَيْسَ بمذهبك. فقال لَهُ أبو الوفاء:

أكون مثل أَبِي عليّ الْجُبّائيّ، وفلان، وفلان لَا أعلم شيئًا؟ أَنَا لي اجتهاد، حتى ما طالبني خصْمٌ بحُجةٍ، كَانَ عندي ما أدفع بِهِ عَنْ نفسي وأقوم لَهُ بحجَّتي.

فقال شيخنا: كذلك الظنّ بك.

قلت: وكان إمامًا مبرَّزًا، مناظرًا، كثير العِلْم، لَهُ يدٌ طُولي في علم الكلام. وكان يتوقّد ذكاءً. لَهُ كتاب «الفنون» [٢] لم يصنَّف في الدُّنيا أكبر منه.

حدَّثني مِن رَأَى المجلّد الفلانيّ بعد الأربعمائة يحكي فيه بحوثًا شريفة ومناظرات وتواريخ ونوادر، وما قد وقع لَهُ [٣] .

قَالَ رحمه الله: عَصَمني الله في شبابي بأنواع مِن العصمة، وقَصَر محبّتي عَلَى العِلْم، وما خالَطْتُ لعّابًا قطّ، ولا عاشرت إلّا أمثالي مِن طَلَبة العِلْم، وأنا في عَشْر الثّمانين، أجد مِن الحرص عَلَى العِلْم أسند ما كنت أجده وأنا ابن عشرين [٤] ، وبلغت لاثنتي عشرة سنة. وأنا اليوم [٥] لَا أرى نقصًا في الخاطر والفِكْر والحِفْظ، وحدَّة النَّظر بالعين لرؤية الأَهِلَّة [٦] الخفيّة، إلّا أنّ القوّة ضعيفة [٧] .


[ () ] ومدحور ... ولابن عقيل من الكلام في ذم من خرج عن الشريعة من أهل الكلام والتصوّف ما هو معروف كما قال في «الفنون» ومن خطّه نقلت.
[١] هو الكيا الهرّاسي. بكسر الكاف.
[٢] قال ابن رجب: وأكبر تصانيفه «الفنون» ، وهو كتاب كبير جدا، فيه فوائد كثيرة جليلة في الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصلين، والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات، وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره، ونتائج فكره قيّدها فيه. (ذيل طبقات الحنابلة) .
[٣] وقال ابن الجوزي: وهذا الكتاب مائتا مجلّد، وقع لي منه نحو من مائة وخمسين مجلّدا.
وقال سبط ابن الجوزي: واختصر منه جدّي عشر مجلّدات فرّقها في تصانيفه، وقد طالعت منه في بغداد في وقف المأمونية نحوا من سبعين، وفيه حكايات ومناظرات، وغرائب وعجائب وأشعار. (مرآة الزمان ج ٨ ق ١/ ١٥١) .
[٤] المنتظم ٩/ ٢١٤ (١٧/ ١٨١) .
[٥] في المنتظم: «وأنا في سنة الثمانين» .
[٦] في الأصل: «لرؤية أهلة الخفية» .
[٧] في المنتظم: «إلّا أن القوّة بالإضافة إلى قوّة الشبيبة والكهولة ضعيفة» .