للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَصَلَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ خُشُونَةِ الْعَيْشِ وَالْجِدِّ وَالْعَمَلِ، وَتَرْكِ الاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ وَالتَّحَرُّزِ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. كَانَ تَزُورُهُ الْمُلُوكُ فَمَنْ دُونَهُمْ، فَلَا يَكَادُ يَجْتَمِعُ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ [١] .

قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَتْرُكْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

قلت: وبعض العلماء أَنْكَرَ غُلُوَّهُ فِي الْوَرَعِ وَقَالَ: هَذَا نَوْعٌ مِنَ الْوَسْوَاسِ فِي الطَّهَارَةِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» [٢] . قُلْتُ: وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَسْوَسَةِ فِي الْوَرَعِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لا يُرِيبُكَ» [٣] . وَلَوْلا ارْتِيَابُهُ لَمَا بَالَغَ فِي شَيْءٍ وَغَلَبَةُ الْحَالِ حَاكِمَةٌ عَلَى الْعِلْمِ مِنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ.

وأيضا فمن الذين قال إنّه كان يتورّع عن الحرام فقط. بل قد يتورَّع الإنسان عن الحرام والمشتبهة والمباح، ولا يُوجب ذلك على غيره، بل ولا على نفسه. وهذا الرّجل فكان كبير القدْر، له أجران على موافقة السّنّة، وأجر واحد


[١] ذيل مرآة الزمان ٢/ ٣١٥، ٣١٦.
[٢] هذا جزء من حديث رواه أحمد في المسند ٥/ ٢٦٦، والطبراني في المعجم الكبير ٨/ ٢٥٧ رقم ٧٨٦٨، والهيثمي في مجمع الزوائد ٥/ ٢٧٩، عن أبي أمامة قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم في سرية من سراياه فمرّ رجل بغار فيه شيء من ماء فجذبته نفسه أن يقيم في ذلك الغار فيقوت ما فيه من ماء، ويصيب مما حوله من البقل ويتخلّى من الدنيا، ثم قال: لو أني أتيت نبيّ الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له، فإن أذن لي فعلت وإلّا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبيّ الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثني نفسي بأن أقيم وأتخلّى من الدنيا. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة، والّذي نفسي بيده لغداة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، وكمقام أحدكم في الصفّ خير من صلاته ستين سنة» .
[٣] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٢٢/ ١٤٧ رقم ٣٩٩، والهيثمي في مجمع الزوائد رقم ٢٣٨١ وقال: فيه طلحة بن زيد الرقي وهو مجمع على ضعفه. وأخرجه أبو يعلى (٣٥٢/ ١) ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠/ ٢٩٤ بلفظ: «تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وإن أفتاك المفتون» وهو جزء من حديث حسن لأنّ متنه تضمن شواهد متفرّقة. وانظر: المعجم الكبير للطبراني ٢٢/ ٧٨، ٧٩ رقم ١٩٣، وص ٨١ رقم ١٩٧، وفي الباب من رواية أبي الحوراء ٣/ رقم ٢٧٠٨.