والصلاة والسّلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وبعد
فقد نشأ الدرس اللغوي في العالم الإسلامي في رحاب القرآن الكريم؛ لأن العلماء المسلمين توقفوا أمام النص المقدس محاولين فهمه، والتوصل إلى معانيه الشريفة، وهذا لا يتأتّى لهم إلا بدراسة لغته التي بها نزل على أشرف خلق الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم؛ لذلك وجدنا علوما لغوية كثيرة نشأت في رحابه؛ متخذة من آياته الكريمة نقطة الانطلاق، ومن بينها معرفة معاني ألفاظه، وإعرابه، وقراءاته، وسواها من العلوم اللغوية. ويقول الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت ٢٠٤ هـ)، رضي الله تعالى عنه وأرضاه في رسالته:«فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصّا واستدلالا، ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه وانتفت عنه الرّيب، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة».لذلك يرى القدماء من العلماء العرب، ونحن نرى رأيهم، أن أفضل علم صرفت إليهم الهمم، وتعبت فيه الخواطر، وسارع إليه ذوو العقول علم كتاب الله تعالى ذكره؛ إذ هو الصراط المستقيم، والدين المبين، والحقّ المنير. وأشار أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي (ت ٤٣٧ هـ) إلى أن من أعظم ما يجب على الطالب لعلوم القرآن، الراغب في تجويد ألفاظه، وفهم معانيه، ومعرفة قراءته ولغاته، وأفضل ما الطالب محتاج إليه، معرفة إعرابه، والوقوف على تصرّف حركاته وسواكنه؛ ليكون بذلك سالما من اللحن، مستعينا على إحكام اللفظ به، مطّلعا على المعاني التي قد تختلف باختلاف الحركات، متفهّما لما أراد الله به من عباده؛ إذ بمعرفة حقائق الإعراب، تعرف أكثر المعاني، وينجلي الإشكال؛ فتظهر الفوائد، ويفهم الخطاب، وتصحّ معرفة حقيقة المراد. ونشير إلى أن القدماء حين يؤلفون في إعراب القرآن الكريم لا يؤلفون للمبتدئ الذي لا يعلم من النحو إلا الخافض والمخفوض، والفاعل والمفعول، والمضاف والمضاف إليه، والنعت والمنعوت ... ؛ وإنما كانوا يؤلفون لمن شدا طرفا منه، وعلم ظواهره وجملا من عوامله، وتعلق بطرف من أصوله. وإعراب القرآن الكريم علم، له أصوله وقواعده، ولا يقدم عليه إلا من امتلك الأدوات التي تمكنه من الإعراب الصحيح الذي يفيد منه طلاب العلم والمعرفة؛ بالإضافة إلى أن المعرب يجب عليه مراعاة بعض الأمور، ومن بينها أن يفهم معنى ما يريد إعرابه، مفردا كان أو مركبا، قبل الإعراب؛ فإن الإعراب فرع المعنى، وأن يتجنب الأعاريب المحمولة على اللغات الشاذة؛ فإن القرآن الكريم نزل بالأفصح من لغة قريش، ولا يعمل فيه إلا على ما هو فاش دائر على ألسنة فصحاء العرب دون الشاذ والنادر الذي لا يعثر عليه إلا في موضع أو موضعين. وعلى الرغم من كثرة الكتب التي تناولت آي الذكر الحكيم بالإعراب؛ فإن (إعراب القرآن الكريم) الذي تقدمه دار الصحابة للتراث بطنطا يحتل مكانة متميزة بينها لما يأتي:
١ - ربط الإعراب في بعض المواضع بالمعنى الجليل الذي تدور حوله الآية الكريمة.
٢ - الابتعاد عن الخلافات بين النحويين، والأخذ بأوضح وجوه الإعراب وأيسرها.
٣ - وجود مدخل في أول الكتاب حول الإعراب لغة واصطلاحا ونماذج للإعراب المفصّل.
٤ - الالتزام بمنهج علمي سليم في الإعراب، وهو المنهج الذي نجد حديثا عنه في أول الكتاب.
٥ - جمال الإخراج وحسنه، ودقة المراجعة.
وهناك مميزات أخرى كثيرة سوف يلمسها كل من يقرأ هذا الإعراب الجاد والدقيق، ولا بد من الإشادة بالأمانة العلمية التي تحلى بها فريق العمل الذي صنع هذا الإعراب؛ لأننا نجد قائمة بأهم المؤلفات في (إعراب القرآن الكريم) قديما وحديثا. إن (إعراب القرآن الكريم) الصادر عن دار الصحابة للتراث بطنطا عمل علمي جاد ومتميز، يمكن لكل مسلم أن يفيد منه: الطبيب، والمهندس، والقاضي، ورجال الإعلام ... ؛ بالإضافة إلى المتخصصين في علوم اللغة العربية الشريفة، العجيبة اللطيفة. ويسعدني أن أتوجه بالتحية الصادقة، والشكر الجزيل إلى جميع الإخوة الذين تشرفوا بإصدار هذا العمل الجليل، وعلى رأسهم فضيلة الأستاذ الشيخ أبي حذيفة إبراهيم الشناوي، وأن يكون في ميزان حسناتهم يوم القيامة. والله وحده ولي التوفيق والسداد.