للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

على العرش إلا بعد الإخبار بالفراغ من" "خلق السموات والأرض وما بينهما، وإن لم يكن ثمَّ سريرٌ منصوب" ولا جلوس محسوس، ولا استواء، على ما يدل عليه الظاهر من تعريف الهيئة مخصوصة، ومن ذلك قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشَاءُ} فالمستعار البسط، والمستعار منه يد المنفق، والمستعار له يد الحق سبحانه وتعالى اللتان يراد بهما ها هنا التصرف في الملك بالأرزاق، وذلك ليتخيل السامع عند سماع ذلك أنّ ثم يدين مبسوطتين بالإنفاق، ولا يدان في الحقيقة ولا بسط على ما يدل عليه الظاهر، وإنما جاء الكلام على ما جاء عليه الازدواج، حيث قالت اليهود لعنهم الله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فقال سبحانه في الجواب: {غُلَّتْ أَيدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} فخرج هذه الجملة المعترضة بين الكلام والجواب مخرح الالتفات، ثم عاد إلى الجواب فقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشَاءُ} فجاء هذا الالتفات بالدعاء عليهم معترضًا بين الدعوى والرد بلفظ التعطف في قوله: {مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ} وحصل الرد بعد ابدعاء عليهم المشعر بكفرهم من قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشَاءُ}؛ لأن غلّ اليد عن الإنفاق لا يقع إلا من أحد منفقين: منفق فوقه قاهر يأخذ على يديه، ومنفق يخاف الفقر فيمسك عن الإنفاق، والحق سبحانه فوق كل قاهر، وغناه لا يخاف معه الإملاق، فيَنْدمج في ضمن الردّ عليهم ما يدل عليه فحوى الرد من (التمدح بالعلوّ على كل شيء بالغنى الأكبر كما اندمج في ضمن الدعاء عليهم) واستحقاقهم الذم على كفرهم، فحصل من مجموع ذلك ضرب من البديع يقال له الافتنان، وهو جمع كلام بين فنّين متغايرين فصاعدا كهذا الكلام. الذي جمع بين هجاء اليهود ومدح الحق نفسه الذي لزم من الردّ عليهم".

وقال في صفحة (٥٦): "والضرب الثالث من المبالغة إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة، والأخبار عنه مجاز، كقول من رأى موكبًا عظيمًا أو جيشًا خضمًا، جاء الملك نفسه، وهو يعلم حقيقة أن ما جاء جيشه، وقد جاء من ذلك في الكتاب الكريم قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}، فجعل مجيء جلائل آياته مجيئًا له سبحانه للمبالغة وكقوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}، فجعل نقله بالهلكة من دار العمل إلى دار الجزاء وجدانًا للمجازى".

وقال في صفحة (٢٩٩): "وقد جاء في الكتاب العزيز من هذا الافتنان نوع غريب، وهو الجمع بين التعزية والفخر، وذلك في قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}، فإنه سبحانه عزى جميع المخلوقات من الإنس والجن وسائر أصناف الحيوانات ومشى على الأرض من كل قابل للحياة، وملائكة السموات، وتمدّح بالانفراد بالبقاء بعد فناء الموجودات في عشر لفظات، مع وصفه سبحانه ذاته بعد انفراده بالبقاء بالجلال والإكرام، وحقّ له ذلك سبحانه" أ. هـ.

* قلت: ومن كلامه هذا يدلنا على أنه يذهب مذهب الأشاعرة، حيث إنهم في الإستواء تأويلين أحدهما: بالإستيلاء، وهذا تأويل نفاه العلو من متأخري الأشاعرة، ولعل صاحب الترجمة (ابن أبي الإصبع) من هؤلاء كما في تأويله لصفة الاستواء وقوله سابقًا: " ... استوى على سرير ملكه استيلاء عظمة ... " وقوله في العلو عند رد