انغرس في نفسه منذ صباه التعصب له، والذب دونه، والذم لما سواه ... المذهب الثاني: ما ينطبق في الإرشاد والتعليم على من جاء مستفيدًا مسترشدًا، وهذا لا يتعين على وجه واحد بل يختلف مجسب المسترشد، فيناظر كل مسترشد بما يحتمله فهمه ... المذهب الثالث: ما يعتقد الرجل سرًّا بينه وبين الله عزَّ وجلَّ لا يطلع عليه غير الله تعالى ولا يذكره إلا مع من هو شريكه في الإطلاع على ما اطلع، أو بلغ رتبة يقبل الإطلاع عليه ويفهمه"، ثم ذكر قول الفريق الثاني الذين يقولون المذهب واحد، ثم ذكر أن الأولين يوافقون هؤلاء على أنهم لو سئلوا عن المذهب لم يجز أن يذكروا إلا مذهبًا واحدًا.
إن هذا الكلام يمد في معرفة وتحليل ذلك التناقض العجيب في كتبه.
وفي المبحث الثالث قال: "ثالثًا: الشك عند الغزالي:
وقد احتلت هذه المسألة مكانًا بارزًا بالنسبة لدارسي الغزالي، بل وكثرت المقارنات بينه وبين ديكارت، صاحب الفلسفة المعروفة التي قال فيها:"أنا أفكر، إذن فأنا موجود"، بل أثبت أحد الباحثين أن ديكارت قد اطلع على كتاب الغزالي "المنقذ من الضلال" وأنه اقتبس منه فكرة الشك، والكلام حول شك الغزالي وكنهه وإلى أي مدى كان يطول، ولكن الثابت أن منهج الشك عند الغزالي تمثل في أمرين:
أحدهما: عملي، وهو ما عايشه وسطره بوضوح في كتابه المنقذ من الضلال، ويلاحظ هنا أن الغزالي يشرح ما جرى له، ولذلك سماه داء ومرضًا.
والثاني: شك منهجي، وهو الذي أشار إليه في بعض كتبه، ومن ذلك قوله:"ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعًا، إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمي والضلال، نعوذ بالله من ذلك"، وهذا الشك هو الذي يذكر في أول واجب على المكلف، هل هو النظر أو القصد إلى النظر أو الشك، وإذا كان الأول والثاني قد أخذ به بعض الأشاعرة فإن الثالث -وهو الشك- إنما يؤثر القول به عن أبي هاشم الجبائي المعتزلي".
وفي المبحث الرابع قال: "رابعًا: تصوف الغزالي وفلسفته: بقدر اشتهار الغزالي بأشعريته، اشتهر بتصوفه، ولذلك فهو يمثل مرحلة خطيرة من مراحل امتزاج التصوف بالمذهب الأشعري حتى كاد أن يكون جزءًا منه، ولكن ما نوعية التصوف الذي اعتنقه الغزالي بقوة حتى قال فيه في المنقذ -بعد شرح مطول لمحنته ورحلته وعزلته-: "ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به: أني علمت يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطريق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئًا من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلًا، فإن جميع حركاتهم