لحصول هذا العمل في الكتب، وأن مرتبته العلمية لا تؤهله إلا لأن يكون ناقلًا للتفسير فقط؟
والحقيقة أن هذا تواضع منه على عهده في حب التواضع، لأنه: وإن لم يقدم لنا تفسيرًا مؤلفًا بخطه على عهد من سبقه من المفسرين، فإنه قدم لنا أنموذجًا حيًّا لمنهجية تفسيرية أفريقية ابتعدت عن مسلك بعض المناهج المشرقية في التأليف والتحرير، وسلكت مسلك البحث والجمع والتحليل والإملاء، وأقامت بين الأستاذ والطالب حوارًا بناء يجتمع حول دراسة النصوص القرآنية لتتمخض عنه مادة تفسيرية جديدة تعبر في عمومها من اكتمال الثقافة الإسلامية، وتجمع منها ما استقام على أسس سنية أشعرية منيعة تتهاوى دونها المذاهب الكلامية المخالفة.
سارت دروس التفسير في منهجها على نسق متشابه حيث كانت تتلى الآية أو الآيات ثم يبدأ في التفسير، فيورد كلام أئمة القراءات أو اللغة والنحو ويعتني ببيان ما احتمل التأويل أو الاختلاف بين المفسرين فيذكر أقوال العلماء من أصولين وفقهاء ومحدثين وقد يعرج في ذكر نكتة بلاغية أو علمية أو شواهد شعرية أو قضايا اجتماعية ظرفية أو مباحث في أصول الدين أو أصول الفقه ليقوم بهما ما لم يستقم من تفسير أو تأويل ويرجح به آراء على أخرى، وتلتقي جميعها أحيانًا في الآية الواحدة، وتعرض على التلاميذ لتناقش فيصير الدرس محكمة تفسيرية تتداول فيها الآراء سجالًا بين الحاضرين، فتجمع الاحتمالات العديدة والأوجه المختلفة، وتتدارس برؤى سنية أشعرية ومنهجية حرة ربما كانت فيها الكلمة الأخيرة لأحد الطلبة يقره عليها شيخه بكل تواضع علمي. ولقد اختار ابن عرفة لنفسه هذا المنهج التربوي، وآثره على غيره من المناهج، وسار بالتفسير وجهة جديدة: وجهة السؤال والجواب قبل تقرير المسألة، وفي هذا يقول البسيلي بعد ذكر بعض أسئلة الطلبة:"وهذه أسئلة وأجوبتها وأمثالها مما ذكرنا في كتابنا هذا، هو مما يقع بين الطلبة في مجلس شيخنا ابن عرفة رحمه الله أو بينه وبينهم وذلك مما يدلك على علو مرتبته وعظم منفعته ولذلك كان حذاق الطلبة يفضلونه على غيره من مجالس التدريس وأنشدنا في نظمه هذا المعنى:
[طويل]
إذا لم يكن في مجلس العلم نكتة ... بتقرير إيضاح لمشكل صورة
وعزو غريب النقل وفتح مقفل ... أو إشكال أبدته نتيجة فكرة
فالتفسير عنده ليس عملية تقريرية لجملة من المسائل بقدر ما هو طريقة إيفاضية مولدة للأفكار منبهة للعقول ومحفزة للهمم للبحث عن خفايا القضايا بطريقة استقرائية منطقية وبأسلوب لا يعرف الملل ولا تتطرق إليه الرتابة المميتة لسير الدرس" أ. هـ.
وفاته: سنة (٨٠٣ هـ) ثلاث وثمانمائة، وله سبع وثمانون سنة.