قال ابن خلكان:(تنقل ابن سينا في البلدان، واشتغل بالعلوم، أتقن علم القرآن الكريم والأدب، وحفظ أشياء من أصول الدين، وحساب الهندسة، والجبر والمقابلة وعمره عشر سنين، وتوجه نحوهم الحكيم الناتلي-بالنون، والتاء المثناة من فوق-فأنزله أبو الرئيس أبي علي عنده، وابتدأ يقرأ عليه، فأحكم علم المنطق واقليدس والمجسطي حتى فاق شيخه الناتلي المذكور بدرايتها، وأوضح له رموزا، وفهمه إشكالات كان شيخه المذكور لا يدريها، ومع ذلك كان يختلف في الفقه إلى إسماعيل الزاهد يقرأ ويبحث ويناظر، ثم اشتغل بتحصيل علوم أخرى كالطبيعي والإلهي، ونظر في النصوص والشروح، ثم رغب في علم الطب، وتأمل كتبه المصنفة، وعالج تأدبا لا تكسبا، وعلمه حتى فاق فيه الأوائل والأواخر في أقل مدة، واختلف إليه فضلاء هذا الفن وكبراؤه يقرءون عليه أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة وسنّه إذ ذاك ست عشرة سنة، وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلة واحدة بكمالها، ولا اشتغل في النهار بسوى المطالعة، وكان إذا أشكلت عليه مسألة ..
توضأ وقصد المسجد الجامع، وصلّى ودعا الله أن يسهلها عليه ويفتح عليه مغلقها على ما ذكر بعض المؤرخين.
وذكر عند الأمير نوح صاحب خراسان في مرض مرضه، فأحضره وعالجه حتى برئ، واتصل به وقرب منه، ودخل إلى دار كتبه وكانت عديمة المثل، فيها من كل فن من الكتب المشهورة بأيدي الناس وغيرها مما لا يوجد في سواها ولا سمع باسمه فضلا عن معرفته، فظفر أبو علي فيها بكتب الأوائل وغيرها، وحصّل نخب فوائدها، واطلع على أكثر علومها، فاتفق بعد ذلك احتراق تلك الخزانة، فتفرد أبو علي بما حصله من علومها، ويقال: إنه الذي توصل إلى إحراقها؛ لينفرد بمعرفة ما حصله منها وينسبه إلى نفسه.
ولم يستكمل ثمان عشرة سنة من عمره إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها، ثم صار هو وأبوه يتصرفان في الأحوال، ويتقلدان الأعمال للسلطان، وجرت له تنقلات في البلدان كخوارزم وجرجان ودهستان والري وقزوين وبخارى وهمذان وأصبهان وبست وطوس، وله اجتماع بولاتها كخوارزم شاه، وشمس المعالي قابوس، وشمس الدولة، وعلاء الدولة.
وتولى الوزارة لشمس الدولة في همذان، ثم تشوش العسكر عليه، فنهبوا داره وقبضوا عليه، وسألوا شمس الدولة قتله فامتنع، ثم أطلق فتوارى، ثم مرض شمس الدولة بالقولنج، فأحضره لمداواته، واعتذر إليه، وأعاده وزيرا) (١).