فقال له بعض الحاضرين: يا جحش العرب؛ بلغ من فضولك أن خاطبت أمير المؤمنين كلمة بكلمة، فقال: رمتك الجندل ولأمك الهبل، أما سمعت قول الله عزّ وجل في كتابه المنزل على نبيه المرسل:{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها} فإذا كان الله تعالى يجادل جدالا فمن هشام حتى لا يخاطب خطابا؟ ! فأمر هشام بضرب عنقه، فضحك الصبي، فقال له هشام: أنت في الممات وأنت تضحك، أتهزأ بنا أم بنفسك؟ فقال: يا أمير المؤمنين؛ اسمع مني كلمتين وافعل ما بدا لك، قال: قل فو الله؛ إن هذا أول أوقاتك من الآخرة، وآخر أوقاتك من الدنيا، فقال: الصبي فو الله؛ إن كان في المدة تقصير وفي الأجل تأخير ..
لا يضرني من كلامك هذا لا قليل ولا كثير، ولكن يا أمير المؤمنين؛ أبيات من الشعر حضرتني فاسمعها مني، قال: قل، فقال الصبي:[من الكامل]
نبئت أن الباز صادف مرة ... عصفور بر ساقه المقدور
فتكلم العصفور في أظفاره ... والباز منهمك عليه يطير
ما فيّ ما يغني لمثلك شبعة ... ولئن أكلت فإنني لحقير
فتعجب الباز المدل بنفسه ... عجبا وأفلت ذلك العصفور
فضحك هشام وقال: والله؛ لو تلفظ بهذا الكلام في أول أوقاته وطلب ما دون الخلافة .. لأعطيته، يا فلان؛ احش فاه درا وجوهرا، وأعطاه الجائزة والكسوة، وسرحه إلى أهله مسرورا.
ولما قارب هشام الوفاة .. أغلق الخزان الأبواب، فطلبوا قمقما يسخن فيه الماء لغسله، فما وجدوا حتى استعاروا من الجيران، فقال الحاضرون: إن في هذا لمعتبرا لمعتبر.
وقيل: إنه أغمي عليه، ثم أفاق إفاقة التمس فيها من الخزان شيئا، فحيل دونه، فقال: أرانا كنا خزانا للوليد، ثم قضى فكفنه غالب مولاه.
٥٩٥ - [سعيد المقبري](١)
سعيد بن أبي سعيد-واسم أبي سعيد: كيسان-المدني المعروف بالمقبري لسكناه المقبرة، وأبو سعيد مولى بني ليث.
(١) «طبقات ابن سعد» (٧/ ٤٢٤)، و «تهذيب الأسماء واللغات» (١/ ٢١٩)، و «سير أعلام النبلاء» (٥/ ٢١٦)، و «تاريخ الإسلام» (٨/ ١١٦)، و «مرآة الجنان» (١/ ٢٦٣)، و «تهذيب التهذيب» (٢/ ٢٢).