كان يسكن قرية الظرافة-بضم الظاء المعجمة-قرية شرقي سهفنة، وكان يتردد إلى الجند؛ رغبة في زيارة مسجدها ومذاكرة علمائها، وكان والي الجند حسن الظن بالفقيه، فلم يزل يتلطف به ويرغبه في سكنى الجند لينتفع الناس بعلمه حتى أجابه إلى ذلك بشرط ألا يلزمه الحكم، وألا يدعوه إلى منزله؛ فإن دعاه .. فلا يكلفه أكل طعام، فالتزم له ذلك، ثم إنه حدث للوالي ما أوجب أن يدعوا الناس إلى بيته، فاستدعى الفقيه من جملتهم، فلما صاروا إلى الطعام والفقيه ممسك يده .. ناوله الوالي موزة أو موزتين وقال: يا سيدي الفقيه؛ هذا أهداه لي فلان، وذكر له رجلا معروفا بالحل، وجعل يتلطف بالفقيه ليأكل من طعامه، فاستحيى الفقيه، فأخذ الحبة وأكل منها بعضا، ثم قام مبادرا مظهرا أن له عذرا، فلما صار في الدهليز .. أخرج الحبة من بطنه، ثم سار إلى بيته.
ولم يزل مقيما بالجند إلى أن قدم الصليحي في سنة أربع وخمسين وأربع مائة، فدخل عليه الفقيه من جملة فقهاء الجند للسلام، وكان الصليحي قد استخبر عنهم، وحقق حال الفقيه وعلمه وصلاحه، فقال له: يا فقيه؛ القضاء متعين عليك، ونريد منك تقبله، فقال الفقيه ما معناه: لا أصلح له، ولا يصلح لي، فأعرض الصليحي مغضبا، واشتغل عنه بالحديث مع الحاضرين، فخرج الفقيه مبادرا، وجد في السير إلى قريته، فسأل عنه الصليحي بعد ساعة، فقيل: قد خرج، فأمر بطلبه، فلم يوجد في البلد، فأمر جماعة يلحقونه إلى بلده ويقعون به، فخرجوا في أثره وأدركوه على قرب من قريته، فضربوه بسيوفهم، فلم تقطع فيه شيئا، غير أنه من شدة ألم الضرب وتكرره وقع على الأرض مغشيا عليه، فتركوه ورجعوا إلى الصليحي، وأخبروه أن سيوفهم لم تقطع فيه شيئا، فأمرهم بكتم ذلك، ثم إن بعض المارة رأى الفقيه على تلك الحالة، فصاح بأهل القرية، فحملوه إلى بيته، ورشوا عليه الماء حتى أفاق، وسألوه عن قصته، فأخبرهم الخبر، فقيل له: هل كنت تقرأ شيئا؟ قال: كنت أقرأ سورة يس، وقيل: جاءوه وقد أحرم بالصلاة، فلم يشعر بشيء من فعلهم به، ولم يزل الصليحي بعد ذلك يعظمه ويحترمه، ويحترم أصحابه، ويعفي أراضيهم من الخراج، ويقبل شفاعته فيما شفع، ويقول: ليس في فقهاء السنة مثله.
ومن مصنفاته: كتاب «التقريب» وكتاب «الجامع» وهو من الكتب النافعة المعدودة.