الحزبين، وانشقت العصا، وثارت الفتنة بين الحزبين حتى كاد أن يكون بين الإمامين، فضاق الفقيه زيد من ذلك، وهاجر إلى مكة المشرفة؛ خوف الفتنة، فأقام بها اثنتي عشرة سنة.
وفي مدة إقامته بمكة توفي شيخاه الطبري والبندنيجي، فتعين التدريس والفتوى بمكة المشرفة على زيد اليفاعي؛ إذ لم يكن بعدهما أكبر قدرا منه في علمه وعمله.
وكان في مدة إقامته بمكة يأتيه مغل أرضه من اليمن مستوفرا، فيقتات بعضه، ويعامل ببعضه حتى تحصل له مال جزيل، ولم يزل مجللا معظما عند المكيين.
ثم عاد إلى اليمن بعد موت المفضل بن أبي البركات وشيخه الفقيه أبي بكر، فأقام بالجند، فقصده الطلبة من عدن ولحج وأبين وحضر موت وتهامة والجبال.
وممن اشتهر بالأخذ عنه الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني، وأبو بكر بن محمد اليافعي، وعبد الله بن أحمد الزبراني وغيرهم من الفضلاء.
ولزم الفقيه طريق الخمول، وكان متورعا، متنزها عن صحبة الملوك ومخالطة الأمراء وأخذ جوائزهم، وأجمع أهل زمانه على نزاهة عرضه، وجودة علمه، وشدة ورعه، وكان ذا عبادة، يخرج كل ليلة من منزله بعد هوي من الليل، فذكر بعض من يبيت في المسجد أنه رأى الفقيه ليلة وقد دخل المسجد وجعل يتأله، وصلّى ما شاء الله، ثم خرج من المسجد، فتبعه الرجل، فلما صار على باب المدينة .. انفتح له الباب، وتبعه الرجل مسرعا، فلما وصل الفقيه موضع قبره الآن .. أحرم بالصلاة، فلم يزل يركع حتى صعد المؤذن المنارة، فأخف صلاته، وعاد المدينة كما خرج، فانفتح له بابها، ثم باب المسجد، فلما صلّى الصبح .. قعد يذكر الله والرجل في ذلك يراقبه من حيث لا يشعر، فدنا منه، فقبل يده، وأخبره بما رأى في جميع حالاته، فقال له الفقيه: إن أحببت الصحبة .. فلا تخبر أحدا ما دمنا في الحياة.
وكرامات الفقيه كثيرة، ولم يزل على الحال المرضي إلى أن توفي في أحد الربيعين من سنة أربع عشرة-وقيل: خمس عشرة-وخمس مائة، وقبر غربي الجند، وقبره هناك مشهور يزار ويتبرك به، وقلّما قصده ذو حاجة .. إلا قضى الله حاجته، نفع الله به آمين.