وأجل من رتب الملوك عليهم ... ثوب الحرير مطرز بالعسجد
سود الدفاتر أن أكون نديمها ... طول النهار وبرد ظل المسجد
فقال له الأشرف: نعم ما حفظت.
كان يجتمع بالمقدسي كثيرا، ويتذاكران في علم الكلام بما لا تحتمله أفهام العوام، حتى نسبا إلى الزندقة والكفر، وشهد عليهما الفقيه أحمد بن الصفي أنهما ينكران صدق القرآن ويقولان: ليس هو كلام الله، فاجتمع الفقهاء إلى رأس المفتين يومئذ بتعز وهو أبو بكر بن آدم الزيلعي، وتشاوروا في أمرهما، فاتفق رأي الفقهاء على أن تصلى الجمعة بجامع المغربة، فإذا خرج ابن البانة والمقدسي .. قتلناهما، وأرحنا منهما الإسلام والمسلمين، فسمع ابن البانة بما تمالأ عليه الفقهاء، فتقدم إلى المقدسي، وعرفه الأمر وحذره، وأمره بالتقدم إلى الواثق والالتزام به، وهو إذ ذاك نائب عن أبيه المظفر بتعز، ثم سار ابن البانة مبادرا من تعز إلى زبيد، فلما كان يوم الجمعة .. طلع الفقيه أبو بكر بن آدم من ذي عدينة إلى جامع المغربة، واجتمع إليه الفقهاء للأمر الذي قد بيتوه، فلما حان وقت الصلاة .. دخل المقدسي ومعه جماعة من خدم الواثق يحرسونه بالسلاح، فلم يتم للفقهاء ما أرادوه منه.
ولما وصل ابن البانة إلى زبيد .. قصد الأشرف بن المظفر لمعرفة كانت بينهما وجوار، وكتب قصة يشكو فيها من فعل الفقهاء معه، فلما وقف المظفر على القصة .. شق عليه الأمر، وخشي مسارعة الفقهاء إلى شقاق يصعب علاجه، فكتب إليهم: أظلمتم الضياء، وخبطتم في عشواء، فاقتصروا عن هذه الأهواء، واشتغلوا بالنصوص؛ فإنك يا بن آدم- أعني المتفقهة وأمثالك ممن هو في تلك الجهة-لم تحط علما بما هو في كتابه تعالى، ولو بهت أحدكم وسئل عن مسألة على قولين .. لم يكن في قدرته الجواب عنها حتى يكشف ويطالع، فإذا كان بغيتكم ما أفنيتم فيه أعماركم .. فكيف تخرجون إلى أهوية تقيمون لها أمثالا بظاهر ألفاظكم مما يستدل بها على أهويتكم، فاعتمدوا على الكتاب والسنة والصحيح من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، واتركوا التمسك بالموضوعات عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فلهذا علماء يوردون ويصدرون، ولستم من ذلك النمط في شيء، فالحذر الحذر كل الحذر، ومن حذّر فقد أنذر، فإن اقتصرتم، وإلا .. قصركم السيف عن طول اللسان؛ فإنما قصدكم التلبيس على العوام بقيل وقال.