قد قلدناه ذلك، فكان لا يقدر أحد أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان الوزير المذكور، فوقف الحجاج عليهم يوما وقد رحل الناس وهم على طعام، فقال: ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين؟ ! فقالوا له: انزل يا بن اللخناء فكل معنا، فقال: هيهات ذهب ذلك، فأمر بهم فجلدوا بالسياط، وطوّف بهم في العسكر، وأحرق فساطيط الوزير بالنار، فشكاه روح إلى عبد الملك، فاستدعاه عبد الملك، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: ما فعلت أنا شيئا، إنما فعله أمير المؤمنين؛ لأن يدي يدك، وسوطي سوطك، وما على أمير المؤمنين أن يعوض روحا عن ذلك، ولا يكسرني فيما قدمني له؛ فكان ذلك أول ما عرف من كفاءة الحجاج، ثم ولاه عبد الملك بتالة بالقرب من اليمامة فسار إليها، فلما قرب منها .. سأل عنها، فقيل له: وراء هذه الأكمة، فقال: تبا لولاية تواريها أكمة، ورجع على عقبه القهقرى.
ثم ولاه عبد الملك قتال ابن الزبير فحاصره، ورمى البيت بالمنجنيق حتى ظفر بابن الزبير فقتله وصلبه، وهدم من البيت ما كان أدخله ابن الزبير من الحجر، وتركه على حالته المعروفة الآن بعد مشاورته عبد الملك في ذلك، ثم أضيف إليه أمر المدينة، فمكث واليا على الحجاز ثلاث سنين، ثم صرفه عنه وولاه العراق، فقاتل شبيبا وقطري بن الفجاءة الخارجيين حتى ظفر بهما بعد حروب طويلة.
ثم خرج عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث في جماعة من الفقهاء والعباد والصالحين، قاموا لله تعالى لما رأوا من جور الحجاج وإماتته الصلاة، وسفكه الدماء، فجهز عليهم الحجاج جيوشا فهزموها، ثم كان آخر الأمر الدولة له، فظفر بهم وقتل جمعا عظيما من الفقهاء والعباد والصالحين، وكان آخر من قتله سعيد بن جبير، ولم يمتع بحياته بعده أيام قلائل.
مات ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان من سنة خمس وتسعين، وكان ينشد في مرضه بقول عبيد بن سفيان العكلي:[من البسيط]
يا ربّ حلف الأعداء واجتهدوا ... أيمانهم أنني من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويحهم ... ما ظنّهم بعظيم العفو غفار
وكان مرضه بالأكلة وقعت في باطنه، وسلط الله عليه الزمهرير؛ فكانت الكوانين تجعل