الجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجتمع إليه أصحابه في المسجد، ثم ترك الجلوس في المسجد، فكان يصلي وينصرف، وترك حضور الجنائز، وكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله؛ فلم يشهد الصلوات في المسجد، ولا الجمعة، ولا يعزي أحدا، ولا يقضي له حقا، واحتمل الناس له ذلك حتى مات، فقيل له في ذلك، فقال:
ليس كل أحد يقدر أن يتكلم بعذره.
وسعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي عم المنصور وأمير المدينة، وقالوا: إنه لا يصحح بيع المكره وطلاقه، ويعرض بذلك لعدم صحة بيعتكم، وأنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، ونال منه أمرا عظيما، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة، وكأنما كانت تلك السياط حليا حلي بها.
ولما حج المنصور .. اعتذر إليه من فعل جعفر بن سليمان به، وأراد أن يقيده منه، فقال مالك: والله؛ ما رفعت عني الأسواط .. إلا وقد عفوت عنه؛ لقرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قال القعنبي: دخلت على مالك في مرض موته، فرأيته يبكي، فقلت: وما يبكيك؟ قال: يا بن قعنب؛ ومن أحق بالبكاء مني؟ ! والله؛ لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت فيها برأي بسوط سوط، ولقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي، أو كما قال.
وتوفي رحمه الله تعالى بالمدينة سنة تسع وسبعين ومائة، ودفن بالبقيع، ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج بقوله:[من الطويل]
سقى الله جدثا بالبقيع لمالك ... من المزن من غادي السحائب براق
إمام «موطؤه» الذي طبقت به ... أقاليم في الدنيا فساح وآفاق
إمام به شرع النبي محمد ... له حذر من أن يضام وإشفاق
له مسند عال صحيح بهمة ... فللكل منه حين يرويه إطراق
وأصحاب صدق كلهم علم فسل ... بهم إنهم إن أنت سائلت حذاق
ولو لم يكن إلا ابن إدريس وحده ... كفاه على أن السعادة أرزاق