بالمسك، فما بقي أحد إلا أخذ في كمه، وأخذت معهم، وخرج الناس والشعراء وخرجت معهم، فلحقني خادمان، فرداني إلى الفضل وهو جالس مع أبيه-أو قال: ابنه-فقال لي:
يا محمد؛ قد سمعت ما كان هذه الليلة، والله؛ ما أعجبني من أشعارهم شيئا، وقد أحببت أن تسمعني في المولود شيئا، فقلت:[من الطويل]
ونفرح بالمولود من آل برمك ... ولا سيما إن كان من ولد الفضل
ويعرف فيه الخير عند ولاده ... ببذل الندى والجود والمجد والفضل
فتهلل وجهه فرحا وقال: ما سررت بمثل هذا وأمر لي بعشرة آلاف دينار وقال لي:
خذها يا محمد، وهي دون حقك، فأخذت المال، واشتريت به أرضا وعقارا، وفتح الله عليّ، وكثر مالي، وعظم جاهي، فلم يكن إلا يسيرا حتى نكبت البرامكة، وكان معي حمام بإزاء داري، فأمرت الحمامي أن ينظفه، ثم دخلت فيه، وأمرت الحمامي أن يرسل إلي بمن يدلكني ويغمزني، فأرسل إلي بصبي حسن الوجه، فدلكني وغمزني، فاستلقيت على قفاي، وذكرت أيام البرامكة وأن جميع ما أملكه من فضل الله تعالى، وهو على يد الفضل، وأنشدت البيتين المذكورين، فانقلبت عينا الصبي وانتفخت أوداجه وسقط مغشيا عليه، ففزعت، وخرجت من الحمام، وقلت للحمامي: أرسلت إلي بمجنون يدلكني؟ ! الحمد لله على السلامة منه، فقال: والله يا سيدي ما به جنون، وإن له عندي سنينا كثيرة ما رأيت منه شيئا.
فدعوت الصبي وآنسته من نفسي، حتى اطمأنت نفسه، فقلت له: ما ذلك العارض الذي رأيت منك؟ قال: كأنك ظننت أني جننت؟ قلت: نعم، قال: ما كنت تنشد في ذلك الوقت؟ قلت: بيتين من الشعر، قال: ومن قائلهما؟ قلت: أنا، قال: فيمن قلتهما؟ قال: في ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، قال: ومن ولد الفضل بن يحيى بن خالد؟ قلت: لا أدري، قال: أنا ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، وأنا صاحب ذلك السابع، وفيّ قلت البيتين، كنت قد سمعتهما من قبل، فلما سمعتهما منك .. ضاقت عليّ الأرض بأجمعها، ورأيت مني ما رأيت، قال: فقلت له: يا ولدي؛ أنا والله شيخ كبير، ولا قرابة لي ترثني وأرثها، وقد عزمت أن أحضر شاهدين وأشهدهما أن جميع ما أملكه من فضل الفضل أبيك وعلى يديك، فتأخذ المال وأكون أعيش في فضلك إلى أن أموت، فتغرغرت عيناه وقال: والله؛ لا انثنيت في هبة وهبها لك والدي وإن كنت محتاجا إلى ذلك، قال:
فحلفت عليه أن يأخذ الكل، أو يأخذ البعض، فأبى وكره، وكان ذلك آخر عهدي به.