الشعراء؛ عجبا لكم ما أشد حسدكم! إن أحدكم يأتينا يمدحنا بقصيدة يشبب فيها بصديقته بخمسين بيتا، فما يبلغها حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره، وقد أتى أبو العتاهية يشبب بأبيات يسيرة، ثم قال كذا وكذا، وأنشد الأبيات المذكورة، فما لكم منه تغارون؟ !
وحكى صاحب «الفصوص» في اللغة: أن أبا العتاهية زار يوما بشار بن برد، فقال لبشار: إني لأستحسن قولك اعتذارا من البكاء إذ تقول: [من مجزوء الكامل]
كم من صديق لي أسا ... رقه البكاء من الحياء
وإذا تفطن لامني ... فأقول ما بي من بكاء
لكن ذهبت لأرتدي ... فطرفت عيني بالرداء
فقال بشار: أيها الشيخ؛ ما عرفته إلا من بحرك، ولا شربته إلا من قدحك، وأنت السابق حيث تقول:[من الوافر]
وقالوا قد بكيت فقلت كلا ... وهل يبكي من الجزع الجليد
فقالوا ما لدمعهما سواء ... أكلتا مقلتيك أصاب عود
يحكى أن أبا العتاهية كان قد امتنع من الشعر، فأمر المهدي بحبسه في سجن الجرائم، فلما دخله .. رأى منظرا هاله، فدهش، فطلب موضعا يأوي إليه، فإذا بكهل حسن البزة والوجه، عليه سيما الخير، فقصده وجلس إليه من غير سلام لما هو فيه من الجزع والحيرة، وإذا بالرجل ينشد:[من الطويل]
تعودت مس الضر حتى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
وصيرني يأسي من الناس واثقا ... بحسن صنيع الله من حيث لا أدري
قال: فاستحسنت البيتين، وتبركت بهما، وثاب إلي عقلي فقلت له: تفضل أعزك الله بإعادتهما علي، فقال: يا إسماعيل؛ ويحك ما أسوأ أدبك وأقلّ عقلك ومروءتك! دخلت ولم تسلم علي تسليم المسلم، ولا سألتني مسألة الوارد على المقيم حتى سمعت مني بيتين من الشعر، لم يجعل الله فيك خيرا ولا أدبا ولا معاشا غيره، فطفقت تستنشدني ابتداء كأن بيننا أنسا وسالف مودة توجب بسط القبض، ولم تذكر ما كان منك، ولا اعتذرت عما بدا من إساءتك وقلة أدبك، فقلت: اعذرني متفضلا، فدون ما أنا فيه يدهش، قال: وفيم أنت؟ ! تركت الشعر الذي هو جاهك عندهم، وسبيلك إليهم، والآن تقوله فتطلق، وأنا