نظره في دفتر، إنما هي نظرة، ثم قد حفظ ما فيه، يعرّض بالأصمعي، ثم قال الحسن:
نعم يا أبا سعيد، يجيء من هذا بما ينكر جدا؟ فقال الأصمعي: نعم أصلحك الله، ما أحتاج أن أعيد النظر في دفتر، وما أنسيت شيئا قط، فقال الحسن: فنحن نجرب هذا القول بواحدة، يا غلام؛ هات الدفتر الفلاني؛ فإنه يجمع كثيرا مما قد أنشدتناه وحدثتناه، فأدبر الغلام ليأتي بالدفتر، فقال الأصمعي: أعزك الله، وما حاجة إلى هذا؟ أنت وقعت على خمسين قصة، أنا أعيد القصص التي مرت، وأسماء أصحابها، وتوقيعاتها كلها، فامتحن ذلك بالنظر إليها، فأكبر ذلك من حضر، وعجبوا واستضحكوا، وكان الحسن قد عارض بتلك التوقيعات وأثبتها في دفتر البيت، فقال الحسن: يا غلام؛ اردد القصص، فردّت وقد شدت في خيط كي تحفظ، فابتدأ الأصمعي فقال: القصة الأولى لفلان بن فلان، قصته كذا وكذا، ووقعت أعزك الله كذا وكذا، حتى أنفذ على هذا السبيل سبعا وأربعين قصة، فقال الحسن: يا هذا؛ حسبك الساعة، والله أقتلك-يعني: أصيبك بعيني-يا غلام؛ خمسين ألفا فأحضرها بدرا، ثم قال: يا غلمان؛ احملوا معه إلى منزله، فتبادر الغلمان بحملها، فقال: أصلحك الله، تنعم بالحامل، كما أنعمت بالمحمول، قال: هم لك، ولست منتفعا بهم، واشتريتهم منك بعشرة آلاف درهم، احمل يا غلام مع أبي سعيد ستين ألفا، قال: فحملت معه، وانصرف الباقون بالخيبة.
أصله من البصرة، ثم قدم بغداد في أيام الرشيد، وسبب قدومه ومعرفته بالرشيد ما ذكر في «المقتبس» أيضا: أنه لما قدم الرشيد البصرة .. قال جعفر بن يحيى للصباح بن عبد العزيز: قد عزم أمير المؤمنين على الركوب في زلال في نهر الأيلة، ثم يخرج إلى دجلة، ويرجع في نهر معقل، وأحب أن يكون معه رجل عالم بالقصور والأنهار والقطائع؛ ليقصها له، فقال: لا أعرف من يفي بهذا ويصلح له غير الأصمعي، قال: فأتني به، فأتيته به، فتحدث بين يدي جعفر، فأضحكه وأعجبه، فأدخله إلى الرشيد، فركب معه، فجعل لا يمر بنهر ولا بأرض إلا خبر بأصلها وفرعها، وسمى الأنهار، ونسب القطائع، فقال الرشيد لجعفر: ويحك، ما رأيت مثل هذا قط! من أين غصت عليه؟ ! فلما قارب البصرة .. قال للرشيد: والذي شرفني بخطابك؛ إن لي من كل ما مررت به موضع قدم، فضحك الرشيد وقال: اشتر له يا جعفر أرضا، فاشترى له بنهر الأيلة أربعة عشر جريبا بألف وأربع مائة دينار، وكان جعفر قد نهاه عن سؤال الرشيد، ووعده بكل ما يريد، فقال: أما نهيتك عن سؤاله؟ ! قال: انتهزت الفرصة، فأخبرته خبري، فكرم.