المأمون، فانكسر إبراهيم مرة بعد أخرى، ولما وصل المأمون إلى بغداد .. اختفى إبراهيم، ولم يزل مختفيا سبع سنين، وله في اختفائه حكايات عجيبة.
منها: ما حكاه للمأمون بعد أن رضي عليه وسأله عما اتفق له في اختفائه فقال: من أعجب ما اتفق لي: أني ضجرت يوما من طول اختفائي في البيوت، فخرجت نصف النهار في حال غفلة الناس وقيلولتهم، وقد غيرت حالي حتى لا أعرف، فمررت بجسر بغداد؛ فإذا بتركي على فرس يتبعني ويقول: طلبة أمير المؤمنين، وأراد أن يلزمني، فدلقته عن الفرس حتى سقط إلى دجلة، واشتغل الناس به، وانغمست بينهم، وسعيت حتى أبعدت؛ فإذا أنا بدار، فدققت الباب وقلت: هل لكم في إيواء خائف على نفسه من القتل؟ فخرجت صاحبة الدار، وأدخلتني الدار، وسكنت روعي، وطيبت خاطري، فبينا نحن على ذلك؛ إذ أقبل صاحب الدار وهو التركي الذي رميته في دجلة، فدق الباب، فأدخلتني في مخدع لها، فدخل معصوب الرأس مما أصابه من الجراحة، وهو يئن ويتأسف على ما فاته، فقالت: ما نالك؟ قال: فاتني الغنى أن وقع في يدي، قالت: وما ذاك؟ قال: ظفرت ببغية أمير المؤمنين، وقد وقع في يدي ثم دلقني حتى سقطت من على فرسي في دجلة، وهرب، فأخذت تهون عليه الأمر وتقول له: لعل الخيرة لك في ذلك، ولعلك لو قدمت به على أمير المؤمنين فقتله .. كنت مشاركا في دمه، وإن عفا عنه ورضي عنه .. لم تأمنه أن يخبث عليك، فينالك محذور، فالحمد لله الذي سلمك من ذلك، حتى سكن حاله، ثم قربت له ماء فاغتسل، وقربت له طعاما فأكل، وقربت له شرابا فشرب، ثم نام، فلما علمت أنه قد نام .. قالت: أأنت صاحبه؟ قلت: نعم، قالت: قد سمعت أسفه وحرده، وإن يظفر بك .. لم تسلم منه، فالمصلحة أن تخرج وهو نائم.
فخرجت فمررت بحجام جالس على باب بيته، فسلمت عليه، فرد السلام ببشاشة، فقلت: هل ثمّ مكان يؤويني إلى الليل؟ قال: بالرحب والسعة، وأدخلني إلى بيته، ثم خرج وغاب عني ساعة، ثم أتى بأوان جديدة من الخزف؛ من قدر وكوز ونحو ذلك، وقال: إن الملوك يستقذرون أوانينا، وهذه أوان جديدة لم تمسها الأيدي لتستعملها فيما أردت، ثم صنع طعاما طيبا بحضرتي، ثم غرف منه في الأواني الجديدة وقربه إلي، فعزمت عليه أن يجلس يأكل معي، فأبى وقال: الحجامون لا يؤاكلون الملوك، فقلت: ومن عندك من الملوك؟ قال: أولست بإبراهيم بن المهدي خليفتنا بالأمس؟ طب نفسا، وقر عينا، لو تمكث ههنا طول عمرك .. لم يعلم بك أحد، وغرف لنفسه شيئا من الطعام، وقعد يأكل