والعبارة الخشنة التي أشار الشاطبي إليها كان ينقلها عن صاحبه أبي العباس القبّاب: أنه كان يقول في ابن بشير وابن شاس: أفسدوا الفقه. وكان يقول: شأني عدم الاعتماد على التقاييد المتأخرة، إما للجهل بمؤلفها أو لتأخر أزمنتهم جدًّا، فلذلك لا أعرف كثيرًا منها ولا أقتنيه، وعمدتي كتب الأقدمين المشاهير.
ولقد كان لهذه النزعة الإصلاحية عند الشاطبي أثرها في كتابين من كتبه وهما كتاب "الموافقات" وكتاب "الاعتصام" ...
أما كتاب "الاعتصام" فهو في نقد الحياة الدينية والاجتماعية بين المسلمين، وبيان ما دخل فيها من البدع المذمومة، ولا سيما البدع الدينية، كالتزام المصلين المكث بعد الصلاة لأذكار وأدعية مأثورة يؤدونها بالاجتماع والاشتراك، حتى صارت شعارًا من شعائر الدين، وقد ذهب في هذا إلى أن كل بدعة في الدين مذمومة ولو كانت مما سموه البدع المستحسنة، وذكر أن استحسان ذلك وقع بسبب اشتباهه بالاستحسان الفقهي والمصالح المرسلة، مع أنه ليس منهما في شيء، لأن البدعة مطلقًا استدراك على الشرع وافتئات عليه، وأما مسائل المصالح المرسلة والاستحسان فهي موافقة لحكمته، وجارية على غير المعيّن من عموم بيناته وأدلته. والذي يهمنا هنا مما تناوله بالنقد أمران: أولهما مذهبه في إحداث الربط لالتزام سكناها بقصد الانقطاع للعبادة، وهي بخلاف الربط من الحصون والقصور التي كانت تبنى بقصد الرباط فيها، لأن هذه الربط تدخل في وظيفة الجهاد، وهو أصل من أصول الدين المعروفة، فلا يمكن أن يقال إنه بدعة، بخلاف الانقطاع للعبادة في تلك الربط، وقد ذكر الشاطبي أن أصحابها يتعلقون فيها بالصُّفة التي كانت في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليجتمع فيها فقراء المهاجرين، ثم رد على هذا بأن هذه كانت حالة ضرورة، كما يدل على ذلك قوله تعالى في أهل الصفة:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} فإنه قال {أُخْرِجُوا} ولم يقل خَرجوا، فهم قد أُخرجوا من ديارهم وأموالهم اضطرارًا، ولم يمكنهم أن يبنوا لهم دورًا بالمدينة بعد الهجرة إليها لفقرهم، فآواهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الصفة، إلى أن يتيسر لهم بناء منازل يأوون إليها، فالقعود في الصفة لم يكن مقصودًا لذاته، ولا بناء الصفة للفقراء مقصودًا بحيث يقال إن ذلك مندوب إليه لمن قدر عليه، ولا هي رتبة شرعية تطلب بحيث يقال إن ترك الاكتساب والخروج عن المال والانقطاع إلى الربط يشبه حال أهل الصفة، وبحيث تكون هي الرتبة العليا في الدين، فلا يظن العاقل أن ذلك مباح أو مندوب إليه أفضل من غيره، إن ذلك ليس بصحيح، ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، وإنه ليكفي من يغتر بعمل المتأخرين من هذه الطائفة المتصفين بالصوفية أن صدورها لم يتخذوا رباطًا ولا زاوية، ولم يبنوابناء يضاهون به الصفة للاجتماع على التعبد والانقطاع عن أسباب الدنيا، كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم والجنيد، وإبراهيم الخواص، والحارث المحاسبي، والشبلي، وغيرهم ممن سابق في هذا الميدان، وإنما محصول هؤلاء أنهم خالفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخالفوا السلف الصالح، وخالفوا شيوخ الطريقة التي انتسبوا إليها.