٣ - أنه أوّل معنى حمل العرش في قوله تعالى:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} فقال: "وحمل عرش الرب في الآية قد يكون تمثيلًا لكمال عزته سبحانه، وانفراده بالجلالة والعزة والملك في ذلك اليوم، وأن تأثير هيبته سبحانه وتعالى في القلوب في ذلك اليوم يحكي تأثير ملوك الدنيا، -وهم على عروشهم التي تحف بها جلة وزرائهم وكبار قوادهم- في قلوب رعيتهم المستعبدين لهم، وأين هذا من ذاك، ولله المثل الأعلى، وإنما هو تنزل لأفهام المخاطبين، وإفراغ للمعاني الغيبية في قوالب ما ألفوه من تراكيب لغتهم العربية، واصطلحوا عليه من أساليب التخاطب بينهم فيها، وإلا فإن خالق الكون تقدست أسماؤه ليس جسمًا يحمل على العروش، ولا مخلوقًا تزدهيه الزخارف والنقوش".
ولم يقل السلف هذا المعنى في تفسير هذه الآية والله أعلم.
٤ - نقل الخلاف في مسألة النظر إلى الله سبحانه وتعالى يوم القيامة بين المعتزلة القائلين بنفيها، وأهل السنة القائلين بإثباتها، وعلق على ذلك فقال: "هذا ولو كان لمثلي مقال في هذا الجال لفضلت السكوت عن هذه المسألة وأمثالها مما اختلفت فيه ظواهر النصوص، ولم يلزم منه مس جانب الألوهية، ولا ينشأ عنه ضرر في الدين ولا تعطيل في مصالح البشر، ولو قال المعتزلي لربه يوم القيامة: إني يارب لم أنف الرؤية إلا تمجيدًا لذاتك، وتنزيهًا لها عن مماثلة الحوادث، وقال السني: إني يا رب لا أعتقد أن الرؤية تمس مقام ألوهتك، ولم أثبتها وأعتقدها إلا طمعًا في القرب منك وتلذذًا برؤية وجهك لو قال كل منهما ذلك ما كان الله إلا راضيًا عنهما، ومسبلًا ذيل عفوه عليهما، وساخطًا من حصول التفرقة في دار الدنيا بينهما.
ويا ليت المسلمين أضربوا في صدرهم الأول عن الاختلاف في أمثال هذه المسألة، مما كان الخلاف فيه لفظيًّا أو فلسفيًا، أو لا تكون له نتيجة عملية، أو لا ينقض أصلًا من أصول الدين، ويا ليتهم مذ اختلفوا لم يوغلوا، ولم يجعلوا الاختلاف سببًا للتفرقة، وهذا قرآنهم يهتف من فوق رؤوسهم:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيءٍ} ونبيهم - صلى الله عليه وسلم - يقول:"اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه" أي إذا شعرتم بأن النظر في الآيات، وتقليب وجوه الاحتمال في معانيها، يؤثر في رابطتكم الدينية- فدعوا النظر بالكلية خشية التفرقة.
ولعمري إن انصراف المسلمين منذ قرون عن العلم النافع، وإعراضهم عن النظر فيما يهذب أخلاقهم، ويرقى اجتماعهم ويشد عرى الإخاء بينهم -هو الذي جعلهم يوغلون في مسألة الرؤية وأمثالها، ويفرغون للخوض والنزاع فيها، وبذلك تقلص ظل العمل من ديارهم، وقام مقامه الجدل في مجالسهم وأسفارهم، حتى أوشكوا أن ينطبق عليهم حديث:"ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل وحموا العمل" أ. هـ.
* قلت: ولا ندري لعل التخبط في فهم الاعتقاد الصحيح ديدن أكثر المعاصرين، لتأثرهم بأفكار الغرب كالعلمانية والقومية والشعوبية وغيرها من جهة، وعدم الانتهاء إلى مصادر النبع الطيب في معرفة العقيدة الصحيحة من جهة