القول الثالث: أن المعرفة بالله يمكن أن تقع ضرورة، ويمكن أن يقع بالنظر، وهذا قول جماهير طوائف المسلمين.
إذا تبين هذا فالذين قالوا بأن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر اختلفوا في أول واجب على المكلف:
١. فقال بعضهم: أول واجب النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم.
٢. وقالت طائفة: أول واجب القصد إلى النظر الصحيح.
٣. وقالت طائفة أخرى: أول واجب الشك.
٤. وقالت طائفة رابعة: أول واجب المعرفة بالله.
ويقابل هذه الأقوال من يرى أن أول واجب على المكلف الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، وإفراد الله بالعبودية.
وهذه المعرفة التي يوجبها الأشاعرة مباشرة أو بوسائلها من النظر أو القصد إلى النظر هي معرفة الله تعالى، أي الإقرار بوجوده تعالى وأنه خالق العالم وأن ما سواه مخلوق محدث.
وشيخ الإسلام يوضح في هذا الباب أمرين مهمين:
أحدهما: أن الخلاف الذي وقع بين الأشاعرة حول أول واجب: هل هو المعرفة أو النظر أو القصد إلى النظر أو الشك -خلاف لفظي-، "فإن النظر واجب الوسيلة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والمعرفة واجبة وجوب المقاصد، فأول واجب وجوب الوسائل هو النظر، وأول واجب وجوب المقاصد هو المعرفة، ومن هؤلاء من يقول: أول واجب هو القصد إلى النظر، وهو أيضًا نزاع لفظي، فإن العمل الإختياري مطلقًا مشروط بالإرادة". فهذا تحليل لحقيقة الخلاف، وأن من قال: إن أول واجب النظر أو القصد، لم يقصد حقيقة ذلك، وإنما قصد أنهما مؤديان إلى المعرفة بالله فوجوبهما لذلك.
أما القول بأن أول واجب هو الشك -وهو قول منسوب إلى أبي هاشم الجبائي المعتزلي، وقد أخذ به الغزالي- كما مر -ونسبه ابن حزم إلى الأشعرية- فيرى شيخ الإسلام أنه مبني على أصلين: "أحدهما: أن أول الواجبات النظر المفضي إلى العلم، والثاني: أن النظر يضاد العلم، فإن الناظر طالب العلم، فلا يكون في حال النظر عالمًا"، أي أنه لو كان غير شاك لما احتاج إلى النظر.
الثاني: أن حكاية الأقوال -في كثير من مسائل العقيدة- إنما يحكيها هؤلاء وينسبوها إلى أئمة أهل السنة بحسب ما يعتقدون هم، لا بحسب المروى حقيقة عن هؤلاء الأئمة، يقول شيخ الإسلام: "ولما كان الكلام في هذه الأبواب المبتدعة مأخوذًا في الأصل عن المعتزلة والجهمية ونحوهم، وفد تكلم هؤلاء في أول الواجباب: هل هو النظر، أو القصد، أو الشك، أو المعرفة؟ . صار كثير من المنتسبين إلى السنة والمخالفين للمعتزلة في جمل أصولهم يوافقونهم على ذلك، ثم الواحد من هؤلاء إذا انتسب إلى إمام من أئمة العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وصنف كتابًا في هذا الباب يقول فيه: قال أصحابنا، واختلف أصحابنا، فإنما يعني بذلك أصحابه الخائضين في هذا الكلام، وليسوا من