قلت: ومن أمثلة ما قدمنا قول بعضهم في البخاري: تركه أبو زرعة وأبو حاتم، من أجل مسألة اللفظ. فيالله والمسلمين! أيجوز لأحد أن يقول البخاريّ متروك! وهو حامل لواء الصناعة، ومقدَّم أهل السنة والجماعة! ثم يالله والمسلمين، أتجعل ممادحه مذامّ! فإن الحق في مسألة اللفظ معه، إذ لا يستريب عاقل من المخلوقين في أن تلفظه من أفعاله الحادثة التي هي مخلوقة لله تعالى، وإنما أنكرها الإمام أحمد - رضي الله عنه - لبشاعة لفظها.
ومن ذلك قول بعض المجسِّمة في أبي حاتم ابن حبان: لم يكن له كبير دين، نحن أخرجناه من سجستان، لأنه أنكر الحدَّ لله. فيا ليت شعري من أحق بالإخراج؟ من يجعل ربه محدودًا أو من ينزِّهه عن الجسمية؟ !
وأمثة هذا تكثر، وهذا شيخنا الذهبي رحمه الله من هذا القبيل، له علم وديانة، وعنده على أهل السنة تحمّل مفرط، فلا يجوز أن يعتمد عليه.
ونقلت من خط الحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي رحمه الله ما نصه:
الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي لا أشك في دينه وورعه وتحرِّيه فيما يقوله الناس، ولكنه غلب عيه مذهب الإثبات، ومنافرة التأويل، والغفلة عن التنزيه حتى أثر ذلك في طبعه انحرافًا شديدًا عن أهل التنزيه، وميلًا قويًّا إلى أهل الإثبات، فإذا ترجم واحدًا منهم يُطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن، ويبالغ في وصفه، ويتغافل عن غلطاته، ويتأول له ما أمكن، وإذا ذكر أحدًا من الطرف الآخر كإمام الحرمين، والغزالي ونحوهما، لا يبالغ في وصفه، ويكثر من قول من طعن فيه، ويعيد ذلك ويبديه، ويعتقده دينا، وهو لا يشعر، ويعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبها؛ وإذا ظفر لأحد منهم بغلطة ذكرها. وكذلك فعله في أهل عصرنا، إذا لم يقدر على أحد منهم بتصريح يقول في ترجمته: والله يصلحه، ونحو ذلك. وسببه المخالفة في العقائد. انتهى.
والحال في حق شيخنا الذهبي أزيد مما وصف، وهو شيخنا ومعلِّمنا، غير أن الحق أحقُّ أن يُتبع. وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يُسخر منه. وأنا أخشى عليه يوم القيامة من غالب علماء المسلمين، وأئمتهم الذين حملوا لنا الشريعة النبوية، فإن غالبهم أشاعرة، وهو إذا وقع بأشعري لا يُبقي ولا يَذر. والذي اعتقده أنهم خصماؤه يوم القيامة عند من لعل أدناهم عنده أوجه منه. فالله المسؤول أن يخفف عنه، وأن يلهمهم العفو عنه، وأن يشفعهم فيه.
والذي أدركنا عليه المشايخ النهيُ عن النظر في كلامه، وعدم اعتبار قوله، ولم يكن يستجري أن يُظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه أنه لا ينقل عنه ما يُعاب عليه.
وأما قول العلائي رحمه الله:"دينه وورعه وتحريه فيما يقوله"، فقد كنت أعتقد ذلك، وأقول عند هذه الأشياء [إنه] ربما اعتقدها دينا، ومنها أمور أقطع بأنه يعرف بأنها كذب، وأقطع بأنه لا يختلقها، وأقطع بأنه يجب وضعها في كتبه لتنشر، وأقطع بأنه يحب أن يعتقد سامعها صحتها، بغضًا للمتحدث فيه، وتنفيرًا للناس عنه، مع قلة