معرفته بمدلولات الألفاظ، ومع اعتقاده أن هذا مما يوجب نصر العقيدة التي يعتقدها هو حقًّا، ومع عدم ممارسته لعلوم الشريعة، غير أني لما أكثرت بعد موته النظر في كلامه عند الاحتياج إلى النظر فيه، توقفت في تحرِّيه فيما يقوله، ولا أزيد على هذا غير الإحالة على كلامه، فلينظر كلامَه من شاء، ثم يبصر هل الرجل متحرٍّ عند غضبه أو غير متحرٍّ، وأعني بغضبه: وقت ترجمته لواحد من علماء المذاهب الثلاثة المشهورين، من الحنفية، والمالكية والشافعية، فإني أعتقد أن الرجل كان إذا مد القلم لترجمة أحدهم غضب غضبًا مفرطًا، ثم قرْطم الكلام ومزقه، وفعل من التعصب ما لا يخفى على ذي بصيرة، ثم هو مع ذلك غير خبير لمدلولات الألفاظ كما ينبغي، فربما ذكر لفظة من الذم لو عقل معناها لما نطق بها، ودائمًا أتعجب من ذكره الإمام فخر الدين الرازي في كتاب "الميزان" في الضعفاء، وكذلك السيف الآمدي، وأقول: يالله العجب! هذان لا رواية لهما، ولا جرَّحهما أحد، ولا سُمع من أحد أنه ضعّفهما فيما ينقلانه من علومهما، فأيّ مدخل لها في هذا الكتاب؟ ثم إنا لم نسمع أحدًا يسمى الإمام فخر الدين بالفخر، بل إمّا الإمام، وإما ابن الخطيب، وإذا تُرجم كان من المحمّدين، فجعله في حرف الفاء، وسماه الفخر، ثم حلف في آخر الكتاب أنه لم يتعمد فيه هوى نفسه، فأي هوى نفس أعظم من هذا. فأما أن يكون ورّى في يمينه، أو استثنى غير الرواة، فيقال له: فلم ذكرت غيرهم؟ وإما أن يكون اعتقد أن هذا ليس هوى نفس، وإذا وصل إلى هذا الحد والعياذ بالله فهو مطبوع على قلبه".
وقال في طبقاته (٢/ ٢٢): "إن أهل التاريخ ربما وضعوا من أناس، ورفعوا أناسًا؛ إما لتعصب أو لجهل، أو لمجرد اعتماد على نقل من لا يوثق به، أو غير ذلك من الأسباب.
والجهل في المؤرخين أكثر منه في أهل الجرح والتعديل. وكذلك التعصب قل أن رأيت تاريخًا خاليًا من ذلك.
وأما تاريخ شيخنا الذهبي غفر الله له، فإنه على حسنه وجمعه مشحون بالتعصب المفرط، لا واخذه الله، فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين، أعني الفقراء الذين هم صفوة الخلق، واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعيين والحنفيين، ومال فأفرط على الأشاعرة، ومدح فزاد في المجسِّمة. هذا وهو الحافظ المِدْرَه والإمام المبجّل؛ فما ظنك بعوامّ المؤرخين!
فالرأي عندنا أن يُقبل مدح ولا ذم من المؤرخين إلا بما اشترطه إمام الأئمة وحبر الأمة، وهو الشيخ الإمام الوالد رحمه الله حيث قال، ونقلته من خطه في مجاميعه:
يشترط في المؤرخ الصدقُ، وإذا نقل يعتمد اللفظ دون المعنى، وألا يكون ذلك الذي نقله أخذه في المذاكرة، وكتبما بعد ذلك، وأن يسمّى المنقول عنه. فهذه شروط أربعة فيما ينقله.
ويشترك فيه أيضًا لما يترجمه من عند نفسه ولما عساه يطول في التراجم من النقول ويقصد أن يكون عارفًا بحال صاحب الترجمة؛ علمًا ودينًا وغيرهما من الصفات، وهذا عزيز جدًّا، وأن يكون حسن العبارة، عارفًا بمدلولات الألفاظ، وأن يكون حسن التصور، حتى يتصور حال